الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: من لم يتغن بالقرآن

          ░19▒ (باب: مَنْ لم يتغن بالقرآن)
          قال الحافظ: هذه التَّرجمة لفظ حديث أورده المصنِّف في الأحكام مِنْ طريق ابن جُريجٍ عن ابن شهابٍ بسند حديث الباب بلفظ (مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا) وهو في «السُّنن» مِنْ حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ وغيره.
          قوله: (وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]) أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عُيَينة (يتغنَّى: يستغني)، كما سيأتي في هذا الباب عنه، وأخرجه أبو داود عن ابن عُيَينة ووكيعٍ جميعًا، وقد بيَّن إسحاق بن رَاهَويه عن ابن عُيَينة أنَّه استغناءٌ خاصٌّ، وكذا قال أحمد عن وَكيعٍ: يستغني به عن أخبار الأمم الماضية، وقد أخرج الطَّبَريُّ وغيره مِنْ طريق عمرو بن دينارٍ عن يحيى بن جَعْدة قال: جاء ناسٌ مِنَ المسلمين بكتبٍ وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه مِنَ اليهود فقال النَّبيُّ صلعم: ((كفى بقومٍ ضلالةً أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيُّهم إليهم(1)إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) فنزل {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ(2)} الآية [العنكبوت:51] وقد خَفي وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثيرٍ مِنَ النَّاس كابن كثيرٍ، فنفى أن يكون لذكرها وجهٌ، على أنَّ ابن بطَّالٍ مع تقدُّمه قد أشار إلى المناسبة فقال: قال أهل التَّأويل في هذه الآية... فذكر أثر يحيى بن جَعْدة مختصرًا، قال: فالمراد بالآية الاستغناءُ عن أخبار الأمم الماضية، وليس المراد الاستغناءَ الَّذي هو ضدُّ الفقر، قال: وإتْباع البخاريِّ التَّرجمة بالآية يدلُّ على أنَّه يذهب إلى ذلك. انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: قوله: (قال / سفيان: تفسيره يستغني به) أي: عن غيره مِنَ الكتب السَّالفة، أو مِنَ الإكثار مِنَ الدُّنيا، وارتضى ذلك أبو عُبيدٍ في «تفسيره» وقال: إنَّه جائزٌ في كلام العرب، واحتجَّ بقول ابن مسعودٍ ☺ : مَنْ قرأ آل عمران فهو غنيٌّ، وقيل: المراد به الغنى المعنويُّ وهو غِنى النَّفس، وهو القناعة لا المحسوس الَّذي هو ضدُّ الفقر، فإنَّ ذلك لا يحصل بمجرَّد ملازمة القرآن.
          وقال النَّوَويُّ: معناه عند الشَّافعيِّ وأصحابه وأكثر العلماء تحسينُ الصَّوت به. انتهى.
          قال الطِّيْبيُّ: قال الشَّافعيُّ: لو كان معنى يتغنَّى بالقرآن على الاستغناء لقال: يستغني، وتحسين الصَّوت هو يتغنَّى، ونقل ابن الجوزيِّ عن الشَّافعيِّ أنَّ المراد به التَّحزُّن.
          قال في «الفتح»: ولم أرَه صريحًا إنَّما قال في «مختصر المُزَنيِّ»: وأحبُّ أن يقرأ حدرًا وتحزينًا. انتهى.
          والحدر: الإدراج مِنْ غير تمطيطٍ، والتَّحزين رقَّة الصَّوت وتصييره(3) كصوت الحزين، وقال ابن الأنباريِّ في «الزَّاهر»: المراد بالتَّغنِّي التَّلذُّذ به، كما يستلذُّ أهل الطَّرب بالغناء فأَطلق عليه تغنِّيًا مِنْ حيث إنَّه يفعل عنده كما يفعل عند الغناء، وقيل المراد التَّرنُّم به، لحديث ابن أبي داود والطَّحاويِّ عن أبي هريرة ☺ ((حسن التَّرنُّم بالقرآن)) قال الطَّبَريُّ: والتَّرنُّم لا يكون إلَّا بالصَّوت إذا حسَّنه القارئ وطرَّب به، وقال: ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصَّوت ولا لذكر الجهر معنًى. انتهى.
          ويمكن كما في «الفتح» الجمع بين أكثر التَّأويلات المذكورة وهو أنَّه يحسِّن به صوته جاهرًا به مترنِّمًا على طريق التَّحزُّن مستغنيًا به عن غيره طالبًا به غِنى النَّفس راجيًا به غِنى اليد. انتهى.
          قال الحافظ: وسيأتي ما يتعلَّق بحسن الصَّوت بالقرآن في ترجمةٍ مفردةٍ، ولا شكَّ أنَّ النُّفوس تميل إلى سماع القراءة بالتَّرنُّم أكثر مِنْ ميلها لِمَنْ لا يترنَّم، لأنَّ للتَّطريب تأثيرًا في رقَّة القلب وإجراء الدَّمع، وكان بين السَّلف اختلافٌ في جواز القرآن بالألحان، أمَّا تحسين الصَّوت وتقديم حسنِ الصَّوت على غيره فلا نزاع في ذلك، ثُمَّ بسط الحافظ اختلاف العلماء في جواز القراءة بالألحان. انتهى.


[1] قوله: ((إليهم)) ليس في (المطبوع).
[2] قوله: ((يتلى عليهم)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((وتصيره)).