التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب آنية الفضة

          ░28▒ (بَابُ آنِيَةِ الفِضَّة).
          5633- ذكر فيه حديثَ حُذَيفةَ أيضًا فقال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) وهو مُحَمَّدُ بن إبراهيمَ، (عَنِ ابْنِ عَوْنٍ) واسمه عبد الله، (عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) واسمه عبد الرَّحْمَن، (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَب وَالفِضَّة، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ).
          5634- وحديثَ أمِّ سَلَمَةَ أنَّه ◙ قَالَ: (الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّة إنَّما يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ).
          5635- وحديثَ البراءِ: (أَمَرَنَا رَسُول اللهِ صلعم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ...) الحديث، وقد سلف [خ¦5175]، وفيه: (وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الفِضَّةِ أَوْ قَالَ آنِيَةِ الفِضَّة).
          وحديث أمِّ سَلَمَةَ: أخرجه النَّسَائيُّ مِن حديثِ نافعٍ عن صفيَّةَ، عن عائِشَة، وأخرجه ابنُ ماجه مِن حديثِ نافعٍ عن امرأةِ ابنِ عُمرَ، عن عائِشَةَ، وأخرجه النَّسَائيُّ أيضًا عن مُحَمَّد بن عليِّ بن حربٍ، عن مُحْرِزِ بن الوضَّاحِ، عن إسماعيلَ بنِ أُمَيَّةَ، عن نافِعٍ، ولم يذكر زيدًا إنَّما قال: عن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، والبُخَارِيُّ أخرجه عن إسماعيل، عن مالكٍ، عن نافِعٍ، عن زيدِ بنِ عبد الله بن عُمرَ، عن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق، عن أمِّ سَلَمَةَ، قال النَّسَائيُّ: والصَّواب حديث أيُّوبَ عن نافِعٍ، يعني عن زيْدٍ عن عبد الله، وذكر مِن حديث خالدِ بن عبد الله بن حُسينٍ الدِّمَشْقِيِّ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا: ((مَن شَرِبَ مِن آنيةِ الفِضَّة والذَّهَب في الدُّنْيَا لم يَشرب بها في الآخرة))، ثُمَّ قالَ ◙: ((آنيةُ أهلِ الجَنَّةِ الذَّهَبُ والفِضَّةُ...)) الحديث، ورواه عبد العزيز بن أبي رَوَّادٍ عن نافِعٍ عن أبي هُرَيْرَةَ، قال النَّسَائيُّ: والصَّواب في هذا كلِّه حديثُ أبي هُرَيْرَةَ، وفي الدَّارَقُطْنِيِّ مِن حديثِ ابن عُمرَ مرفوعًا بزِيَادة: ((أو في إناء فيه شيءٌ مِن ذلك))، وفيه مَن لا يُعرف.
          وقد أسلفنا الإجماعَ على حُرْمة استعمال أواني الفِضَّة.
          واختلفوا في الآنية المفضَّضَة، فرُوي عن عائِشَة ♦ أنَّها نَهَت أن نُضبِّب الآنيةَ أو نحلِّقها بفِضَّةٍ، وكان ابن عُمرَ ☻ لا يشربُ في إناء فيه حَلْقة فِضَّةٍ أو ضبَّةٍ، وهو قول عطاءٍ وسالِمٍ وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْر، وبه قالَ مالكٌ واللَّيْث، وقال القاضي في «معونته»: يجوز الإناء المضبَّب إذا كان يَسِيرًا، وقال الخطَّابيُّ عن الشَّافِعِيِّ: أكرَهُ الشُّرْبَ في الإناء المفضَّض بالفِضَّة لئلَّا يكون شاربًا على الفِضَّة فأباح علم الحرير بخِلاف يسير الفِضَّة، قال: ويجوز أن يفرَّق بينهما بأنَّ الحريرَ أُبيح للإناث ولبعض الذُّكور عند الضَّرورة كَمَن به حكَّةٌ، وعندما أتاه العدُوُّ، ورخَّص في قليلهِ إذا كان عَلمًا في ثوبٍ، والشُّرْب في الفِضَّة إنَّما حرُم مِن أجل السَّرف، وهو محرَّمٌ على الرِّجَال والنِّسَاء جميعًا فجُعل قليلُهُ ككثيرهِ.
          ورخَّصت في ذلك طائفةٌ: روي عن عِمرَان بن حُصَيْنٍ وأَنس بن مالكٍ أنَّهما أجازا الشرب في الإناء المفضَّض، وأجازه مِن التابعين طَاوُس والحكم والنَّخَعِيُّ والحَسَن البصريُّ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يشرب الرجل بالقَدَح المفضَّض إذا لم يجعل فاهُ على الفِضَّة، كالشُّرْب بيدهِ وفيها الخاتَمُ، وقال أحمدُ: لا بأس به إذا لم يجعل فاهُ على الفِضَّة وهو مثل العَلم في الثوب، وبه قال إسحاقَ، وقال ابن المنذر: ثبتَ أنَّه ◙ نهى عن آنية الفِضَّة، والمفضَّضُ ليس بإناء فِضَّةٍ، وكذلك المُضبَّب، فالذي يحرُم فيه الشُّرْبُ ما نُهي عنه ولا يعصي مَن شَرِبَ فيما لم يُنه عنه، وقال أبو عُبَيْدة نحوَه، وفِعلُ ابن عُمرَ إنَّما هو محمولٌ على التورُّع لا على التَّحريم، وكما رُوي عنه أنَّه كان ينضَحُ الماء في عينيه لغُسلِ الجِنَابة، وليس ذلك بواجبٍ عليه.
          وروى أبو نُعَيمٍ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عن حُمَيدٍ قال: رأيتُ عند أنسٍ ☺ قَدَحَ رَسُولِ اللهِ صلعم فيه فِضَّةٌ أو سُبِكَ بِفِضَّةٍ. قال الطَّحَاوِيُّ: ولا يخلو ذلك أن يكون قد كان في / زمن رَسُول اللهِ صلعم أو أحدثَهُ أنسٌ، وأيُّ ذلك كان قد ثبت عن أنسٍ إباحته؛ لأنَّه كان يسقي النَّاس فيه تبرُّكًا برَسُول اللهِ صلعم. قلت: المحفوظُ عن أنسٍ أنَّه فاعلُهُ كما ستعلمُه، قال الخطَّابيُّ: وَهُوَ حُجَّةٌ على الشَّافِعِيِّ. قلت: لا فهي يسيرةٌ للحاجةِ وهو يُبيحُها.
          فصْلٌ: قال أبو عُبَيْد: والجَرْجَرَةُ صوتُ وقوعِ الماء في الجوفِ، وإنَّما يكون ذلك عند شِدَّة الشرب، ومنه قيل للبعير إذا صوَّت: هو يُجَرْجِر، وجَرْجَرَ الفحل إذا هدرَ في شَقشَقَته، فكان المعنى: يصوِّتُ في بطنه نار جهنَّم، فيكون إعراب (نَار) على هذا بالرفع، ويجوز أن يكون المعنى: يتجرَّع في شربه نارَ جهنَّم، فيكون إعراب (نَار) بالنَّصْب، مثل قوله: {إنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًًا} [النِّسَاء:10]، وقال الدَّاوُدِيُّ: معنى (يُجَرْجِر) يَنْحَدِر، أي يتجرَّعُ نار جهنَّم.
          وقوله: (يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) محمولٌ عند أهل السُّنَّة على أنَّ اللهَ تعالى في الخِيَار لمن أراد أن يُنْفِذ عليه الوعيد.
          فصْلٌ: ولنذكر نبذةً من شرح حديثَ البراء، وإن كان سلف غير مرَّةٍ.
          قوله: (نَهَانَا عَنِ... الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ) ذكرُ الدِّيباج بعدَ الحرير مِن بابِ ذكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ، وهو فارسيٌّ معرَّبٌ، وجمعه دَيَابِج، وإن شئتَ دَيَابِيج على أنَّ تجعل أصلَه مشدَّدًا، كَدَنَانِير أصله دِنَّار، فكذا هذا أصلُه دِبَّاج، وذلك ردُّه إلى أصله في التصغير، و(الْجِـَنَازَةِ) بكسر الجيم وفتحها واحدةُ الجنائز، وقال ابن الأعرابيِّ: بالكسر السَّرير، وبالفتح الميِّت، والمعروفُ عكسُه، وقال الجَوْهَرِيُّ: العامَّة تقول: الجَنازة بالفتح والمعنى للميِّت على السَّرير وإلَّا فهو نعشٌ وسريرٌ.
          والتَّشْمِيتُ بالمعجمة والمهملة، قال ابن مُزَينٍ: لا يجوز أن يشمِّتَه واحدٌ مِن جماعةٍ بخلاف ردِّ السلام، وقال أبو عُبَيْدٍ: هو كردِّ السلام ويُجِزئ، ومعناه: إذا قال له: يرحمك الله، قيل: معناه بالمعجمة سألَ اللهَ أن يجمعَ شملَهُ، وقيل: معناه بالمهملة أي دعوتُ له بالهدى والاستقامة على سمْتِ الطريق، والعربُ تضع الشين مع السين كقولهم: جِحَاش وجِحَاس، وقيل: هو مِن الشَّماتة، وذلك إذا قلتَ له: يرحمُك الله فقد أدخلتَ على الشَّيطان ما يُشْمِتُهُ فيُسرُّ بذلك العاطِسُ ويشمَتُ الشَّيطان، وقال ثعلَبٌ: المهملة المختار لأنَّه مأخوذٌ مِن السَّمْت وهو القصْدُ والمَحجَّة، وقال أبو عُبَيْد: الشين في كلامهم أعلا وأفضل.
          وصفة التَّشميت: يرحمك الله، ويَردُّ: يهديكم الله ويُصْلِح بالكم ويغفر الله لكم، قال في «المعونة»: والأوَّل أفضلُ، وقال في «التلقين»: الثاني أحسنُ.
          وقوله: (وَعَنِ الْمَيَاثِرِ) قال الدَّاوُدِيُّ: هي من الأُرْجُوان الأحمر، وقيل: جُلُود السِّباع، وقال غيرُه: قال أبو عُبَيْدٍ: المَيَاثِرُ الحُمْرُ التي جاء فيها النَّهي كانت مِن مراكب الأعاجمِ مِن دِيْباجٍ أو حريرٍ، قال ابن التِّين: وهذا أبينُ؛ لأنَّ الأُرْجُوان لم يأتِ فيه تحريمٌ ولا في جُلُود السِّباع إذا ذُكِّيت، وقال جَرِيرٌ عن يزيدَ، بعد هذا في البُخَارِيِّ [خ¦77/28-8689]: المِيْثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. وقال عليٌّ: كانت النِّسَاء تصنعهُ لبِعُولتهنَّ مثل القَطَائِفِ يَصفونها.
          و(القِسِّيِّ) الثِّياب التي يُؤتى بها مِن مِصْرَ مِن قَسٍّ؛ بلدةٌ بِتِنِّيسَ خَرِبت الآن وهي بفتح القاف، وأصحاب الحديث يكسرون والوجه الفتح وعليه أهل مصر، ذكره القزَّاز، قال الهَرَوِيُّ عن شَمِرٍ عن بعضهم: هو القزي أُبدلت الزاي سينًا. وقال أبو عُبَيْدٍ: هو منسوبٌ إلى بلادٍ يُقال لها: القَسُّ رأيتُها، ولم يعرفها الأصمعيُّ، وقال ابن فارسٍ: هي ثيابٌ يُؤتى بها مِن اليمن، وفي البُخَارِيِّ في اللِّباس [خ¦77/28-8689] عن أبي بُرْدَةَ: قلنا لعلِّيٍّ: ما القَسِّيَّةُ؟ قال: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ، مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ، فيها أمثال الأُتْرُجُّ.
          و(الإِسْتَبْرَقِ) ضرْبٌ مِن الدِّيْبَاج غليظٌ، قيل: وفيه ذَهَبٌ، وأصلُه فارسِيٌّ معرَّبٌ أصلُه اسْتَبْرَه فرُدَّ إستبرق، والمعروف أنَّ الإِسْتَبْرَقَ غليظُ الدِّيْبَاجِ، وقال الدَّاوُدِيُّ: هو رَقِيقُهُ.