التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه

          ░6▒ (بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ، ويُسَمِّيهِ بَغيْرِ اسْمِهِ).
          5590- (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الكِلَابِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ _أَوْ أَبُو مَالِكٍ_ الأشْعَرِيُّ، والله مَا كَذَبَنِي، سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتي أقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيْهِم الفَقِيرُ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُون: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ وَيَضَعُ العَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ).
          الشرح: هذا الحديث وَصَلَه الإسْمَاعِيلِيُّ، فقال: حَدَّثَنَا الحَسَن بن سُفْيَان: حَدَّثَنَا هِشَامٌ فذكرَه، ثُمَّ قالَ: وحَدَّثَنَا الحَسَنُ أيضًا قال: أخبرنا عبد الرَّحْمَن بن إبراهيمَ، حَدَّثَنَا بشرٌ، حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن ابنُ يَزِيدَ بن جابرٍ، وقال أبو عامِرٌ: ولم يشكَّ، ووصلَهُ أيضًا أبو نُعَيمٍ الحافظ فقال: أخبرنا أبو إسحاقَ بن حَمْزَة، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قال: وحدَّثنا الحَسَنُ بن مُحَمَّدٍ، حدَّثنا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَانَ، حدَّثنا هِشَام بن عمَّارٍ، فذكره، ووصله أيضًا أبو داودَ فقال: حدَّثنا عبد الوهَّاب بن نَجْدَةَ عن بِشر بن بكْرٍ، حدَّثنا عبد الرَّحْمَن بن يَزِيدَ بن جابرٍ، وهذا أيضًا على شرط «الصَّحيح»، وكأنَّ البُخَارِيَّ أخذه عن هِشَامٍ مذاكرةً.
          ولَمَّا جوَّز ابنُ حَزْمٍ سماعَ الغِناء عند ذكرِ حديث: ((دَعْهُنَّ فإنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا وهذا عِيدُنا))، وشِبه ذلك قال: لم يأتِ حديثٌ فيه النَّهي عن سماعه صحيحًا، ثُمَّ قالَ: فإن قيل: إنَّ البُخَارِيَّ روى في «صحيحه»، يعني هذا الحديث، قال: هذا منقطعٌ فيما بين البُخَارِيِّ وصَدَقَة بن خالدٍ، والمنقطِعُ لا تقوم به حُجَّةٌ، ولا يصحُّ في هذا الباب شيءٌ أبدًا، وكلُّ ما فيه موضوعٌ، ووالله لو أُسند جميعه أو واحدٌ منه فأكثر مِن طريق الثِّقات إلى رَسُول اللهِ لَمَا ترددتُ في الأخذ به. هذا كلامه، وقال مرَّةً: البُخَارِيُّ علَّقه عن هِشَامٍ ولا حُجَّة فيه، قال: وأبو عامِرٍ لا يدرى.
          وقد علمتَ أنَّه اتَّصل على شرط «الصَّحيح» فلا وجه إذًا عن الأخذ، قال ابن الصَّلاح في «علومه»: لا التفاتَ إلى ما قاله، والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصال بشرط «الصَّحيح».
          ووقع في كلام ابن حَزْمٍ أنَّ البُخَارِيَّ قال: وقال صَدَقةُ، وهو وَهمٌ، وإنَّما قال: وقال هِشَامٌ حدَّثنا صَدَقَةُ، وليته أعلَّه بصَدَقةٍ، فإنَّ يحيى قال فيه: ليس بشيءٍ، رواه ابن الجُنَيد عنه، وروى المَرُّوْذِيُّ عن أحمدَ: ليس بمستقيمٍ ولم يرضَه. لكن تابعه بِشر بن بكْرٍ كما قدمناه، وأغربَ المُهَلَّب فضعَّفَهُ مِن وجهٍ آخر غير جيِّدٍ فقال: هذا الحديث لم يُسنده البُخَارِيُّ مِن أجل شكِّ المحدِّث في الصاحب، فقال: (أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ) أو بمعنًى آخر لا أعلمُه، واعتلَّ أنَّ الاختلافَ في الصَّحابيِّ لا يضرُّ.
          فإن قلتَ: فما وجه إدخاله في الترجمة وهو ترجم بشيئين؛ باستحلال الخَمْرِ، وتسميته بغير اسمه؟ فأما الأوَّل فظاهِرٌ، وأمَّا الثاني فقد جاء مبيَّنًا / مِن طريقٍ آخرَ سأذكره، وإنَّما أدخله البُخَارِيُّ على أنَّه جائزٌ وقوعُه مِن الله في المسرفين على أَنفسهم مِن أهل هذه الملَّة، وأنَّه مرديٌ يجب أن يتوقَّع ما رُوي فيه مِن العقوبة: قال ابن أبي شَيْبَة: حدَّثنا زيدُ بن الحُبَابِ، عن مُعَاويَة بن صالحٍ، حدَّثنا حاتم بن حُرَيثٍ، عن مالكٍ بن أبي مريمَ، عن عبد الرَّحْمَن بن غَنْمٍ قال: حَدَّثَنِي أبو مالكٍ الأشعريُّ أنَّه سمع رَسُولَ اللهِ صلعم يقول: ((يَشربُ ناسٌ مِن أُمَّتي الخَمْرَ يُسمُّونَها بغير اسمِها يُضرَبُ على رؤوسِهم بالمعازِفِ والقَيْنَاتِ، يَخسِفُ اللهُ بهم الأرضَ ويجعلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنَازيرَ)). ورواه ابنُ أبي عاصِمٍ: حدَّثنا دُحَيمٌ، حدَّثنا مُحَمَّد بن شُعَيْبٍ عن أبي حفصٍ القاصِّ، عن مُعَاويَة بن حاتمٍ، عن ابنِ غَنْمٍ، عن أبي مُسلمٍ الأشعريِّ، عن النَّبِيِّ صلعم قال: ((سيكونُ قومٌ يستحِلُّون الخَمْرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها))، وقال ابنُ وَهْبٍ في «مسنده»: حدَّثني عَمْرُو بن الحارثِ عن سَعِيد بن أبي هلالٍ، عن مُحَمَّد بن عبد الله أنَّ أبا مُسلمٍ الخَوْلَانيَّ حجَّ فدخل على عائِشَةَ زوج النَّبِيِّ صلعم، فجعلت تسألُهُ عن الشأم وعن بُرْدِها، فقال: يا أمَّ المؤمنين، إنَّهم يشربون شرابًا لهم يُقال له: الطِّلَاء، فقالت: صَدَق الله وبلَّغ حبيبي، سمعتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يقول: ((إنَّ ناسًا مِن أُمَّتي يشربون الخَمْرَ يسمُّونَها بغير اسمِها)).
          وروى ابنُ أبي شَيْبَة مِن حديثِ ابن مُحَيْريزٍ، عن ثابتِ بن السِّمْطِ، عن عُبَادةَ مرفوعًا: ((ليَستَحِلَّنَّ آخِرُ أُمَّتي الخَمْرَ يسمُّونَها بغيرِ اسمِها))، وأخرجه النَّسَائيُّ مِن حديثِ ابنِ مُحَيْريزٍ عن رَجُلٍ مِن أصحاب النَّبِيِّ صلعم، فذكرَه، فهذه ثلاثُ طُرقٍ.
          ولحديث عائِشَة طريقٌ ثانٍ أخرجه ابنُ أبي عاصِمٍ مِن حديثِ بقيَّة عن عُتْبةَ بن أبي حكيمٍ، حدَّثنا سُلَيْمَان بن مُوسَى، عن القاسِمِ عنها: أنَّه ◙ قال: ((أوَّلُ ما يُكْفَأُ الإيمانُ كما يُكْفَأُ الإناءُ)) يعني الخَمْرَ ((يُسمُّونَها بِغيرِ اسمِها))، وفي روايةٍ له: سألتُها عن الطِّلَاء... الحديث.
          وثالثٌ أخرجه أيضًا مِن حديثِ جعفر بن بُرْقَانَ، عن فُراتِ بن سُلَيْمَان، عن رَجُلٍ مِن جُلَساءِ القاسِمِ، عن عائِشَة ♦: أنَّه صلعم قال: ((إنَّ أوَّلَ ما يَكْفَأُ الإِسلامُ لشَرابٌ يُقالُ لَه: الطِّلَاء)).
          وله طريقٌ رابعٌ مِن حديثِ ابن عُمرَ أخرجه أيضًا مِن حديثِ بقيَّة عن عُتْبةَ: حدَّثِي أَبُو بَكْرِ بنُ حَفْصِ بنِ عُمرَ بن سعدٍ عنه مرفوعًا: ((إنَّ ناسًا مِن أُمَّتي يستحلُّون الخَمْرَ يسمُّونَها _يدعونَها_ بغير اسمِها)).
          وخامسٌ مِن حديثِ أبي أُمَامَةَ أخرجه ابنُ ماجه مِن حديثِ ثورِ بن يَزِيدَ عن خالد بن مَعْدَانَ، عنه مرفوعًا: ((لا تذهبُ الأيَّامُ حتَّى تشربَ طائفةٌ مِن أُمَّتِي الخَمْرَ ويسمُّونَها بغيرِ اسمِها))، وفي «مسند ابن قانعٍ» مِن حديثِ يُونُس بن خبَّابٍ، عن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن سَابِطٍ، عن سَعِيد بن أبي راشِدٍ قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلعم يقول: ((يكونُ في أُمَّتي خَسْفٌ ومَسْخٌ...)) الحديث، وقال ابن المُنيِّر: قنع البُخَارِيُّ في الاستدلال على مرادِه في الترجمة بقوله: (مِنْ أُمَّتِي) فإنَّ كونَهم مِن الأُمَّة يَبعُد معه أن يستحلُّوها بغير تأويلٍ ولا تحريفٍ، فإنَّ ذلك مجاهرةٌ بالخروج عن الأُمَّة، إذ تحريم الخَمْر معلومٌ ضرورةً، فهذا سرُّ مطابقة الترجمة لهذه الزِّيَادة.
          وقال ابنُ التِّين عن الدَّاوُدِيِّ: يحتمل أن يريد بـ(أُمَّتِي): مَن يُسمَّى بهم ويستحِلُّ ما لا يَحلُّ فهو كافرٌ إن أظهرَ ذلك ومنافقٌ إن أسرَّه، أو يكون يرتكب المحارمَ تهاونًا واستخفافًا فهو يُقَاربُ الكفر، والذي يصحُّ في النظر أنَّ هذا لا يكون إلَّا ممَّن يعتقد الكُفرَ ويتسمَّى بالإسلام؛ لأنَّ الله تعالى لا يخسِفُ بمَن تعودُ عليه رحمةٌ في المعاد.
          فصْلٌ: قوله: (الْحِرَ) هو ممَّا اختَلف الحفَّاظ في ضبطه، فأمَّا أبو داودَ فأدخله في «سننه» في باب: ما جاء في الخَزِّ مِن كتاب اللِّباس، وأمَّا ابنُ ناصرٍ الحافِظُ فزعم أنَّ صوابَه كما رواه الحفَّاظ بالحاء المهملة المكسورة والراء والتخفيف، وحكى المحبُّ الطَّبَرِيُّ وغيرُه كما ستعلمُه التشديدَ أيضًا، وقال الشيخ تقيُّ الدِّين القُشَيريُّ: في كتاب أبي داودَ والبَيْهَقِيِّ ما يقتضي الأوَّل، قال بعضُهم: وهو تصحيف، والصَّواب الثاني مخفَّفًا. وقال ابن بطَّالٍ: (الْحِرَ) الفرْج، وليس كمَن تأوَّله مِن صحيفةٍ، فقال: الخزَّ، مِن أجل مقارنته للحرير فاستحلَّ التصحيفَ بالمقارنة مع أنَّه ليس في الخَزِّ تحريمٌ، وقد جاء في الحِرَ التَّحريم، وأما ابنُ الجَوْزيِّ فقال: إنَّه الخزُّ _بالخاء والزاي_ معروفٌ، وقد جاء في حديث يرويه أبو ثَعْلَبةَ عن النَّبِيِّ صلعم: ((يستحلُّ الحِرَ والحَريرَ)) يُراد به استحلال الحرام مِن الفُرُوج، فهذا بالحاء والراء المهملتين وهو مخفَّفٌ، فذكرنا هذا لئلَّا يُتوهَّم أنَّهما شيءٌ واحدٌ.
          وقال ابن التِّين: يريد _والله أعلم_ ارتكابَ الفَرْجِ بغير حلِّه وهو الزِّنَا، وإن كان أهلُ اللُّغةِ لم يذكروا هذه اللفظة لهذا المعنى، وكذلك العامَّةُ تستعملُه بكسر الحاء، وكذا رُوي، وقال الدَّاوُدِيُّ: أحسِب أنَّ قولَه: الخَزَّ، ليس بمحفوظٍ لأنَّ كثيرًا مِن الصَّحابة لَبِسوه، قال: ويحتمل إن كان محفوظًا أن يريد جمع الحِرَ والحرير، لعلَّه يريد الحِرَ جمع حريرٍ مثل: حَمِيرٍ وحمر، قال: ورواه بعضهم بالحاء.
          وقال القاضي وصاحب «المطالع»: مخفَّف الراء فَرْج المرأة، ورواه بعضُهم بشدِّ الراء، والأوَّل أصوب، وقيل: أصلُه بالياء بعد الراء فحُذِفت، وقال ابن الأثير: ذكرَه أبو مُوسَى / في حرف الحاء والراء، وقال: الحِرَ _بتخفيف الراء_ الفَرْج، وأصله حِرْحٌ بكسر الحاء وسكون الراء، وجمعه أَحْرَاح، ومنهم مَن شدَّد الراء، وليس بجيِّدٍ، فعلى التخفيف يكون في حِرْح لا في حرر، والمشهور في رواية هذا الحديث بالخاء والزاي، وهو ضرْبٌ مِن ثياب الإِبْريسَم معروفٌ.
          وقال المُنْذِريُّ: أورد أبو داودَ هذا الحديثَ في باب ما جاء في الخزِّ، كذا الرواية، فدلَّ على أنَّه عنده كذلك، وكذا وقع في البُخَارِيِّ، وهي ثيابٌ معروفةٌ لبسَها غيرُ واحدٍ مِن الصَّحابة والتابعين، فيكون النَّهيُ لأجل التشبُّهِ بالعجم وزيِّ المترَفِين.
          فصْلٌ: معنى قوله: (يَسْتَحِلُّونَ... الحَرِيرَ) أي يَستحِلُّون النَّهي عنه، والنَّهيُ في كتاب الله مِن الشارع يُتوعد عليه بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63].
          فصْلٌ: و(الْمَعَازِفَ) بالزاي المعجمة آلات اللَّهو، قاله في «الصِّحاح»، وعبارة الصَّاغَانيِّ في «عُبَابِه»: المَعازفُ الملاهِي، وقال صاحب «العين»: المعازفُ جمعُ مِعْزَفَةٍ وهي آلة اللَّهو، ونقل القُرْطُبِيُّ عن الجَوْهَرِيِّ: أنَّ المعازِفَ الغِنَاء والذي في «صحاحه» ما قدَّمتُه، وعبارةُ ابن التِّين: المعازِفُ الملاهِي، والعازِفُ اللَّاهِي بها، وبخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ: المعازِفُ مِنَ الدُّفُوف وغيرِها ممَّا يُضرَب به، وقيل: كلُّ لعبٍ عزفٌ، وعَزَفَ غنَّى.
          فصْلٌ: قوله: (وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ...) الحديثَ، هو عَلَمٌ مِن أعلام نُبوَّتهِ، فإنْ وقعَ ما أنذر به فذاك وإلَّا فيشفع لقوله في حديثِ عُبَادةَ: ((ليستحِلنَّ آخِرُ أُمَّتِي الخَمْرَ))، فدلَّ أن كلَّ ما أنذرَ به مِن ذلك يكون في آخر الإسلام.
          فصْلٌ: والعَلَمُ بفتح العين واللام الجبلُ، أي بجوارِ جبلٍ، وجمعُه أَعْلَامٌ، قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن:24]، وقال الدَّاوُدِيُّ: العَلَمُ رأسُ الجبالِ وكلُّ شيءٍ يُعرِّف أهلَ الطريق، وأهلُ اللُّغة على أنَّه الجبال، زاد الخطَّابيُّ: المرتفع، والسَّارِحَةُ الماشيةُ التي تَسرَحُ بالغداة إلى رعيِها، تقول أَرَحْتُ الماشيةَ وأَسَمْتُها وَسَرحْتُها، وَسَرَحَتْ بالغَدَاةِ وَرَاحَتْ بالعَشِيِّ، ومعنى (تَرُوْحُ عَلَيْهِمْ): أي بالعَشِيِّ.
          وقوله: (فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ) أي يُهْلِكهم ليلًا، والبَيَاتُ إتيانُ العَدُوِّ ليلًا، قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97].
          وقوله: (وَيَضَعُ العَلَمَ) يرمي بالجبلِ أو يُخسَف به، قال ابن بطَّالٍ: إن كان العَلَم بناءً فيهدِمُهُ وإن كان جبلًا فَيُدَكْدِكُه، وهكذا إن كان غيره.
          فصْلٌ: وقولُه: (وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) يعني ممَّن لم يُهلِكهم في البَيَات، والمسْخُ في حُكم الجواز في هذه الأُمَّة إن لم يأتِ خبرٌ برفع جوازه، وقد رُويت أحاديث ليِّنَةُ الأسانيد: ((إنَّه سيكون في أُمَّتي خَسْفٌ ومَسْخٌ)) عن رَسُول اللهِ صلعم، ولم يأتِ ما يرفَعُ ذلك، وقال بعضُ العلماء: معنى ما رُوي عن رَسُولِ اللهِ صلعم أنَّه يكون في هذه الأُمَّة مَسْخٌ، فالمراد به مَسْخُ القلوب حتَّى لا تَعرِف معروفًا ولا تُنكِر منكرًا، وقد جاء عن رَسُول اللهِ صلعم أنَّ القرآنَ يُرفع من صُدُور الرِّجَال، وأنَّ الخُشُوعَ والأمانةَ تُنزع منهم، ولا مسخَ أكثرُ مِن هذا، وقد يجوز أن يكون الحديثُ على ظاهرِه فيَمسَخُ اللهُ تعالى مَن أراد تعجيل عقوبته كما خسَفَ بقومٍ وأهلكَهم بالخسْفِ والزَّلَازِل، وقد رأينا هذا عَيَانًا فكذلك يكون المسخ. قاله ابن بطَّالٍ.
          وقال الخطَّابيُّ: فيه بيانُ أنَّ المسْخَ يكونُ في هذه الأُمَّةِ كسائر الأُمم خِلافًا لمن زَعَم أنَّ ذلك لا يكون وإنَّما مَسَخَها بقلوبها، وقال الدَّاوُدِيُّ في قوله: ((لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ))، فيه دليلٌ أنَّ هذه الأمَّةِ لا تأمَنُ أن يُصيبَ بعضَهم ما أصاب أولئك إذا عصَوا.
          قلتُ: في المسْخِ قِرَدةً وخَنَازِيرَ أحاديثُ مِن طُرُقٍ:
          روى سَعِيد بن منصورٍ مِن حديثِ حسَّانَ بن أبي سِنَانَ، عن رَجُلٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((يُمسَخُ قَومٌ مِن أُمَّتي في آخر الزَّمان قِرَدَةً))، قالوا: يا رَسُول اللهِ، ويشهدون أنَّكَ رَسُول اللهِ وأن لا إله إلَّا الله؟! قال: ((نعم، ويصومون ويَصلُّون ويَحجُّون))، قالوا: فما بالهم يا رَسُول اللهِ؟ قال: ((ا تَّخذوا المعازِفَ والقَيْنَاتِ والدُّفُوف، ويشربون هذه الأشربةَ، فباتوا على لهوِهم وشرابِهم فأصبحوا قِرَدَةً وَخَنازِيرَ))، قال التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ إلَّا مِن هذا الوجه. ورواه أبو عبد الله بن مَنْجَوَيه في كتابه «أشراط الساعة» مِن حديثِ أَسِيد بْنُ زَيْدٍ: حدَّثنا عَمْرو عن جابرٍ، عن رُمَيْحٍ الجُذَامِي عن أبي هُرَيْرَةَ بنحوه.
          وروى سَعِيدُ بن منصورٍ عن الحارث بن نَبْهَانَ، حدَّثنا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، عن عاصِمِ بن عُمرَ، عن أبي أُمَامَة مرفوعًا: ((تبيتُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على لهوٍ وأَكلٍ ولَعبٍ فيصبحوا قِرَدَةً وخَنَازيرَ، ويكون فيها خَسْفٌ وقَذْفٌ)).
          ورُوِّينا مِن طريق ابن أبي الدُّنْيَا مِن حديثِ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلمَ، عن أبي حازِمٍ، عن سَهْلٍ بن سعْدٍ مرفوعًا: ((يكون في أُمَّتي خسْفٌ وقذْفٌ ومسْخٌ)) قيل: يا رَسُول اللهِ، متى؟ قال: ((إذا ظَهَرتِ المعازِفُ والقَيْنَاتُ واستُحِلَّتِ الخُمُورُ))، ومِن حديثِ الأَعْمَش عن هلال بن يَسَافٍ، عن عِمرَان بن حُصَيْن مرفوعًا: ((يكون في أُمَّتِي قذْفٌ ومسْخٌ وخسْفٌ)) قيل: يا رَسُول اللهِ، ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظَهَرَتِ المَعَازفُ وكثُرَت القَيْنَاتُ وشُربت الخُمُور))، ومِن حديثِ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عن قَتَادَة، عن ابن المُسَيِّب، عن رَسُولِ اللهِ صلعم مثله، ومِن حديثِ أبي مَعْشَرٍ عن مُحَمَّد بن المُنْكَدرِ، عن عائِشَة ♦ مرفوعًا: ((يكون في أُمَّتي خسْفٌ ومسْخٌ وقذْفٌ))، قالت: وهم يقولون: لا إله إلَّا الله؟! قال: ((إذا ظَهرَتِ القَيْنَاتُ والزِّنَا، وشُربت الخُمُور، ولَبَسُوا الحريرَ)).
          وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حديثِ عليٍّ مرفوعًا: ((إذا عَمِلَتْ أُمَّتي خمسَ عشرة خَصْلةً حلَّ بها البلاء...)) فذكرها، وفيه: ((وشُرِبَت الخمورُ ولُبِسَ الحرير، واُتُّخِذتِ القَيْنَاتُ والمعازفُ، فارتقبوا عند ذلك ثلاثًا: ريحًا حمراءَ وخَسْفًا))، ثُمَّ قالَ: حديثٌ غريبٌ، وفي إسناده فرجُ بن فَضَالةَ وقد ضُعِّف مِن قِبل حفظِهِ.
          وعند ابن أبي الدُّنْيَا وابن مَنْجَوَيه في «أشراط الساعة» مِن حديثِ / إسماعيلَ بن عيَّاشٍ، عن عبد الرَّحْمَن التَّمِيميِّ، عن عبَّاد بن أبي عليٍّ، عن عليٍّ مرفوعًا: ((تُمسَخ طائفةٌ مِن أُمَّتي قِرَدَةً، وطائفةٌ خَنَازِيرَ، ويُخسف بطائفةٍ، ويُرسَل على طائفةٍ الرِّيحُ العَقِيمُ بأنَّهم شربوا الخمورَ ولبسوا الحريرَ واتَّخَذوا القَيْنَاتِ وضربوا بالدُّفُوف)).
          وعند ابن أبي الدُّنْيَا مِن حديثِ أبي بَكْرٍ الهُذَليِّ، عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ مرفوعًا: ((ليكونَنَّ في هذه الأُمَّة خَسْفٌ ومسْخٌ وقذْفٌ، وذلك إذا شربوا الخمورَ واتَّخَذوا القَيْنَاتِ وضربوا بالمعازِفِ))، ومِن حديثِ أبانَ بن تَغْلِبَ عن عَمْرو بن مُرَّةَ، عن عبد الرَّحْمَن بن سَابِطٍ، قال رَسُول اللهِ صلعم: ((يكون في أُمَّتي خسْفٌ وقذْفٌ ومسْخٌ)) قالوا: متى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرتِ المعازفُ واستحلُّوا الخمورَ))، ومِن حديثِ أبي العلاء عن عبد الرَّحْمَن بن صُحَار عن أبيه وكان مِن عبد القَيْسِ يرفَعُهُ: ((لا تقومُ الساعةُ حتَّى يُخسَف بقبائلَ مِن أُمَّتي...)) الحديث.
          ومِن حديثِ إسماعيلَ بن عيَّاشٍ، عن عبد الله بن عُتْبة، عن أبي العبَّاس الهَمْدَانيِّ، عن عُمَارَة بن راشِدٍ، عن الغازي بن رَبِيْعَة يرفعُه: ((ليُخسفَنَّ بقومٍ وَهُم على أَرِيْكَتِهم لشُرْبِهم الخمورَ وضَرْبِهم بالبَرَابِطِ والقِيَان))، ومِن حديثِ عُثْمَان بن عَطَاءٍ عن أبيه، ومِن حديثِ المغيرة عن صالح بن خالدٍ، ومِن حديثِ إسماعيل بن عيَّاشٍ عن عَقِيْلِ بنُ مُدْرِكٍ، عن أبي الزَّاهِريَّةِ، عن جُبَيرِ بن نُفَيرٍ قالوا: قال رَسُول اللهِ صلعم بنحوه.
          وعند أبي نُعَيْمٍ الأَصْفَهانيِّ عن حُذَيفة بن اليَمَان ☻ مرفوعًا: ((مِن اقترابِ الساعة اثنتان وسبعون خَصْلةً)) فذكر منها: ((واتُّخِذَ الحريرُ لِباسًا، وشُرِبَتِ الخُمورُ، واتُّخِذَتِ القَيْنَاتُ...)) الحديث، ((فلتَرْتَقِبوا عندَ ذلك رِيحًا حمراءَ وَمَسْخًا))، وقال: غريبٌ مِن حديثِ عبد الله بن عُمَيرٍ عن حُذَيفة لم يرفعه، لم يروه عنه فيما أعلم إلَّا فَرَجُ بن فَضَالةَ.
          وفي «نوادر التِّرْمِذِيِّ» مِن حديثِ إسماعيلَ بن عيَّاشٍ عن أبيه، عن ابن سَابِطٍ، عن أبي أُمَامَة يَرْفَعُهُ: ((يكونُ في أُمَّتي فَزْعةٌ فيصيرُ النَّاسُ إلى علمائِهم فإذا هم قِرَدَةٌ وخَنَازِيرُ))، وللتِّرْمذِيِّ _وقال: صحيحٌ_ عن ابن عُمرَ ☻: ((يكون في هذه الأُمَّةِ خسْفٌ ومسْخٌ وقذْفٌ في أهل القَدَر)).
          فائدةٌ: في بعض الأخبار عنه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام: ((يأتي على النَّاسِ زمانٌ يُستَحَلُّ فيه الرِّبَا بالبيعِ، والخَمْرُ بالنَّبِيذ، والبَخْسُ بالزَّكاة، والسُّحْتُ بالهَدَيَّةِ، والقتلُ بالموعظة)) يريد بالبَخْسِ: النُّقْصان، ويريد به المَكْس وما يأخذُه الولاة يتأوَّلون فيه الزكاة وهو مَكْسٌ، وقوله: ((القَتْلُ بِالمَوُعِظَةِ)) أي يُقتَل البريءُ ليتَّعِظ به العامَّةُ.