التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر

          ░33▒ (بَابٌ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنَ البُسْرِ وَالتَّمْرِ).
          5582- ذكر فيه حديثَ أنسٍ ☺ قال: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا).
          5583- (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الحَيِّ أَسْقِيهِمْ _عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ_ الفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، فَقَالُوا: أَكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا، قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ).
          5584- وعن أنسٍ: (أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالخَمْرُ يَوْمَئِذٍ البُسْرُ وَالتَّمْرُ).
          الشَّرح: هذا الحديث يأتي أيضًا في خبر الواحد [خ¦7253]، وأخرجه في الوليمة، ومُسلمٌ هنا، والقائلُ: (وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا) هو سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ والد مُعْتَمِرٍ، وقد بيَّنه مُسلمٌ إذ رواه عن مُحَمَّد بن عبد الأعلى، عن مُعْتَمِرٍ عن أبيه قال: حَدَّثَنِي بعضُ مَن كان معي أنَّه سمع أنسًا يقول: كانت خمرَهم يومئذٍ، وعنده أيضًا أنَّه كان يَسقي أبا أيُّوب وأبا دُجَانةَ ومُعَاذَ بن جبلٍ وسُهَيلَ بن بيضاءَ، وعند أحمد بن حَنْبلَ: وما نعدُّها يومئذٍ إلَّا خمرًا، وكانوا أحدَ عشر رجلًا، قال أنسٌ: وكَفَأتها وكَفَأ النَّاسُ آنيتهم بما فيها حتَّى كادت السِّكَك أن تمتنعَ مِن رِيحها، قال أنسٌ: وما خمرُهم يومئذٍ إلَّا البُسْرُ والتَّمْرُ مخلُوطَين، وإنَّ عامَّةَ خمورِهم يومئذٍ الفَضِيخُ والتمرُ والبُسرُ، ولابن أبي عاصمٍ: حتَّى مالَتِ رؤوسُهم فدخَلَ داخلٌ فقال: إنَّ الخَمْر حُرِّمَت، قال: فما خرج مِنَّا خارجٌ ولا دخل داخلٌ حتَّى كسرنا القِلَال وأَهْرَقْنا الشَّرابَ، واغتسلَ بعضُنا وتوضَّأ بعضُنا، وأَصَبْنَا مِن طِيبِ أمِّ سُلَيمٍ، فأتينا النَّبِيَّ صلعم وهو يقرأُ: {إنَّما الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة:90]، فقال رجلٌ: يا رَسُول اللهِ، فكيف بمَن ماتَ مِن إخواننا وهم يشربونَها، فَنَزَلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]، وفي روايةٍ قال: فما عادوا لشُرْبِها حتَّى لقوا اللهَ تعالى.
          فصْلٌ: (الفَضِيخ) عند أكثر أهل العِلْم فيما نقله أبو عُمَرَ: نبيذُ البُسر / ، وقال أبو عُبَيْد بن سَلَّامٍ: هو ما افتُضخ مِن البُسر مِن غير أن تمسَّهُ النَّار، وقال ابن سِيْدَه في «محكمه»: هو عصير العِنَب، وهو يُتَّخَذُ مِن البُسْرِ المفضوخ، قال الرَّاجِز:
بالَ سهيلٌ في الفَضِيخ فَفَسَد
          يقول: لَمَّا طَلَع سُهَيلٌ ذَهَب زمنُ البُسرِ وأرطبَ فكأنَّه بالَ فيه، وفي «مجمع الغرائب»: هو فَضِيخٌ أو فُضُوخٌ لأنَّه مِن البُسر المشدوخِ، أو لأنَّه يُسكِر صاحبَه فَيَفْضَخُهُ، قال ابن عُمرَ وسُئل عنه: ليس بالفَضِيخ ولكنَّه الفُضُوخ، وفي «الصِّحاح»: هو مِن البُسْرِ وحدَهُ.
          فصْلٌ: في كتاب أحمد بسندٍ جيِّدٍ عن جابرٍ: حُرِّمت الخَمْرُ يومَ حُرِّمت وما كانَ شرابُ النَّاسِ إلَّا التمرُ والزَّبيبُ، وكذا قاله هلالُ بن يَزِيدَ ومَعْقِل بن يَسَارٍ وابن عُمرَ وابن عبَّاسٍ، وسُئل عِكْرِمَةُ عنه فقال: حرامٌ ما كان خليطًا وما لم يكن، وكان ابنُ عبَّاسٍ يكرهه وإن كان بُسْرًا مَحْضًا.
          فصْلٌ: هذا الباب أيضًا كالذي قبله حُجَّةٌ على العراقيِّين أنَّ الخَمْرَ مِنَ العِنب وحدَه، لأنَّ الصَّحابةَ القُدوة في علمِ اللِّسان ولا يجوز عليهم أن يفهموا أنَّ الخَمْرَ إنَّما هي مِن العِنَب خاصَّةً ويُهْرِيقُوا جرارَ الفَضِيخ وهي غير خمرٍ، وقد نهى عن إضاعة المال وإنَّما هَرَاقَها لأنَّها الخَمْرة المحرَّمة عندهم مِن غير شكٍّ، ولو شكُّوا في ذلك سألوا رَسُولَ اللهِ صلعم عن عَيْنها وما يقع عليه اسمُها، وقد قال أنسٌ: إنَّهم لم يُعودوا فيها حتَّى لقوا الله، قال إسماعيلُ بن إسحاقَ: جاء في الآثار مِن تفسير الخَمْر ما هي واللُّغة المشهورة والنَّظرِ ما يعرفُه ذوو الألباب بعقولهم أنَّ كلَّ شيءٍ أسكَرَ فهو خمرٌ، وأمَّا كتابُ الله فقوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل:67] فعُلم أنَّ السَّكَر مِن العِنَب مثل السَّكَر مِن النَّخِيل، وقال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء:43]، فنهى عن الصَّلاة في حال السُّكْر، واستوى في ذلك السُّكر مِن ثمرات الأعناب والسُّكر مِن ثمرات النَّخيل، فكما كان السُّكر مِن ثمرات النَّخيل والأعناب منهيٌّ عن الصَّلاة فيه، كذلك كانت الخَمْرُ مِن ثمرات النَّخِيل والأعناب محرَّمةً بهذه الآية.
          فصْلٌ: وقوله: (قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا) الهاءُ في هرق بدلٌ مِن الهمزة ولا يجتمع العِوَض والمعوَّض منه، لكن ذكر سِيبَوَيْه لغةً: أَهْرَقَ الماءَ يُهْرِقُه إِهْرَاقًا، قال سِيبَوَيْه: أبدلوا مِن الهمزة الهاءَ، ثمَّ أُلزمت فصارت كأنَّها مِن نفْسِ الحرفِ، ثمَّ أُدخلت الألف بعدُ على الهاء وتُركت الهاءُ عِوَضًا مِن حذفِهم العينَ لأنَّ أصلَ أَهْرقَ أُريق.
          وقوله: (أكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا) أي اقلِبْها، وهو ثلاثِيٌّ، وهو اختيار ابن السِّكِّيت أنَّه ثلاثيٌّ.
          فصْلٌ: أَبُو عُبَيْدَةَ اسمُه عامر بن عبد الله بن الجرَّاح بن هلالِ بن أُهَيبِ بن ضَبَّةَ بن الحارثِ بن فِهْر، وأَبُو طَلْحَةَ اسمُه زَيْد بن سَهْل بن الأسودِ بن حَرَام، ابنُ عمِّ حسَّان بن ثابت بن المنذر بن حرامِ بن عَمْرو بن زيد مَنَاة بن عَدِيِّ بن عَمْرو بن مالكِ بن النَّجَّار.
          فصْلٌ: قوله في السَّند الآخر لحديث أنسٍ: (أَبُو مَعْشَرٍ البَرَّاءُ) هو بتشديد الراء، وهو يُوسُف بن يَزِيدَ البَصْريُّ، وشيخه (سَعِيدَ بْنَ عُبَيْد اللهِ) بْنِ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ الثَّقَفِيُّ البَصْريُّ، انفرد به البُخَارِيُّ، وانفرد أيضًا بجدِّه جبير بن حيَّةَ بن مَسْعُودِ بن مُعتِّب بن مالكِ بن عَمْرو بن سَعْد بن عوفِ بن ثَقِيفٍ، تابعيٌّ، عنه ابنه زِيَادٌ وبكرُ بنُ عبد الله، ولَّاه زِيَادٌ أَصْبَهانَ، وتوفِّي أيَّامَ عبد الملك بن مروان، وابنُه زِيَادُ بن جُبَيْرِ بن حيَّة تابعيٌّ أيضًا، روى له مسلِمٌ أيضًا، ووالده عند البُخَارِيِّ يروي عنه يونسُ وابنُ عَوْنٍ عندهما، وسَعِيد بن عُبَيْد الله بن جُبَيْرٍ عند البُخَارِيِّ كما سلف.