التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب استعذاب الماء

          ░13▒ (بَابُ اسْتِعْذَابِ المَاءِ).
          5611- ذكرَ فيه حديثَ أنسٍ ☺ في قِصَّة بَيْرُحَاءَ السالفة في الزكاة [خ¦1461]، وموضعُ الحاجة منه قولُه: (وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ)، وقَالَ فيه: (بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ _أَوْ: رَايِحٌ، شَكَّ عَبْدُ الله_ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: رَايِحٌ).
          وحديثُ ابن عبَّاسٍ السالف أنَّه ◙ قال لامرأةِ أبي الْهَيْثَمِ: ((أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ))؟ فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ يَسْتَعْذِبُ لَنَا المَاءَ... الحديث، وروى ابن أبي عاصِمٍ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مثلَه مرفوعًا، ومِن حديثِ عائِشَة أنَّه ◙ كان يُستعذَبُ له الماءُ مِن بيوت السُّقْيَا، ولا شكَّ أنَّ التماسَ الماء العذْبِ لا ينافي الزُّهْدَ، ولا يدخل في الترفُّه المكروه بخِلاف تطييبِ الماء بالمسْكِ وشَبهِه الذي يكرهه مالكٌ؛ لأنَّه نصَّ على كراهة الماء المطيَّب بالكَافُورِ للمُحرِم والحَلال، قال: لأنَّه نوعٌ مِن السَّرَف.
          وشربُ الماء وطلبُه مباحٌ للصَّالحين والفُضلاء، وليس شربُ الماء الزُّعَاق أفضلَ مِن شُرب العَذْب لأنَّه ◙ كان يشربُ العَذْبَ ويُؤثِره، وفيه القُدوة والأُسوة الحَسَنة ومُحَالٌ أن يترك الأفضلَ في شيءٍ مِن أفعاله.
          وفيه دِلالةٌ على استعذابِ الأَطْعِمَة وجميع المآكل جائزٌ لذوي الفضل، وأنَّ ذلك مِن أفعال الصَّالحين، ولو أراد الله أنْ لا يؤكلَ لذيذُ المطاعم لم يخلقها لعباده ولا امتنَّ بها عليهم، بل أراد منهم أكلَها ومقابلتَها بالشكر الجزيل عليها والحمدِ بما منَّ به منها بما ينبغي لكرمِ وجهِه وعزِّ سلطانِه، وإنْ كانت نعمةً لا يُكافِئ شُكر أقلِّها إلَّا بتجاوزه عن تقصيرنا، وقد قال أهلُ التأويل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة:87] أنَّها نَزَلَت فيمَن حرَّم على نفسِهِ لذيذَ المطاعم.
          فصْلٌ: (بَيْرُحَاءَ) فيها لغاتٌ كثيرةٌ أسلفتُها، واقتصر ابنُ التِّين هنا على أنَّ الروايةَ بالمدِّ والقصر، فإن كان منسوبًا إلى حاءٍ التي هي مِن حُرُوف الهِجَاء فهي تُمدُّ وتُقْصَر، وإن كانت حاء مِن مدِّ حح همز حاء أو تكون زَجْرَ الإبل بالمدِّ والقَصْر أيضًا.
          فصْلٌ: قال بعضُ العلماء: هذا الحديث أصلٌ في الشرب مِن ماء الجِبَاب بغير ثمنٍ.
          فصْلٌ: و(بَخٍ) كلمةٌ تُقال عند المدْحِ والرِّضى بالشيءِ، وتُكرَّر للمبالغة فيُقال: بخٍ بخٍ، فإن وُصلَت خُفِضَت / ونُوِّنَت وربَّما شُدِّدتَ كالاسم.
          ومعنى (رابحٍ) بالباء: أي رَبِحَ كثير الرِّبح، وقيل: وصفَه صاحبه موضع الرِّبح وهو مِن حُسْن كلامهم، تقول: مالٌ رابحٌ ومَتْجَرُ رابحٌ ولا تقول: مُرْبحٌ. ومعنى (رَايِحٍ) بالمثنَّاة تحتُ: أي يروحُ أجرُه إلى يوم القيامة، وقيل: يروحُ عليه في الآخرة بالأجر العظيم.
          فصْلٌ: فيه كما قال أبو عبد الملك: أنَّ مَن تصدَّق بشيءٍ معيَّنٍ لزمَه إن كان أكثرَ مِن ثُلُثِه لأنَّه ◙ لم يسأله أهو أكثر مِن ثُلُثِ ماله؟ وهذا لا حُجَّة فيه لأنَّه يحتمل أن يكون ◙ عَلِم كَثْرةَ مالِه، يؤيِّدُه: وَكَانَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، لا جَرَمَ، قال ابنُ التِّين: إنَّه أظهرُ الاحتمالين، قال: وفي مشهور مذهب مالكٍ يَلْزَمه ذلك، وقيل: لا يلزمُهُ.
          فصْلٌ: وقوله: فجَعَلَها فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. يريدُ: وهم بنو عمِّه، ولم يُختلف أنَّه إذا أوصى بشيءٍ لقرابته أنَّ قرابتَه مِن قِبَل أبيه يدخلون، واختُلف هل يدخل قَرَابتُه مِن أمِّه، فقال ابن القاسِمِ: لا، وقال ابن الماجَشُون: نعم، ويدخل بنو البناتِ.