التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شراب الحلواء والعسل

          ░15▒ (بَابُ شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ).
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لِأَنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5 / وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ الله لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
          5614- ثُمَّ ساقَ مِن حديثِ عائِشَةَ ♦: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ) وقد سلف [خ¦5216].
          وقولُ الزُّهْرِيِّ أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ عنه.
          وعندنا يجوز التَّداوي بالبول وغيره مِن النَّجَاساتِ خلا الخَمْرَ والمسكِراتِ، قال ابن التِّين: وشُربُ البول إن كان لغير ضرورةٍ فهو حرامٌ لأنَّ الشارعَ سمَّاه خُبْثًا، فقال: ((وهو يُدافعِه الأَخْبَثانِ))، وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وعند الشِّدَّة هو كالمَيْتَةِ. قال: وتعليل الزُّهْرِيِّ بأنَّه رِجْسٌ غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ المَيْتَةَ والدَّمَ ولحمَ الخِنْزِير رِجْسٌ أيضًا، ولعلَّه يريد أنَّ الرُّخْصَة لم تَرِد فيه بخلافِهما فبَقِيَ على أصلِه في التَّحريم، وما ذكرَه غيرُ ظاهرٍ، وقيل: إنَّهما يُخْبِثانِ النَّفس، والبولُ لا يقطع العطش، فإن صحَّ هذا فلا يُباح لانتفاء الفائدة، وعن الحَسَن: أنَّه كان يكرهُ الدواء يُجعل فيه البول.
          وقال ابن بطَّالٍ: أبوالُ النَّاس مثل الخَمْرِ والمَيْتَةِ في التَّحريم، ولم يختلفوا في جواز أكل المَيْتَةِ عند الضرورة فكذلك البولُ، والفقهاء على خِلاف قول ابن شِهَابٍ، وإنَّما اختلفوا في جواز شرب الخَمْرِ عند الضَّرورة، فقالَ مالكٌ: لا يشربُها لأنَّها لا تزيده إلَّا عطشًا وجوعًا، وأجاز أبو حنيفة أن يشربَ منها مِقْدار ما يُمسك به رَمَقَه، والأصحُّ عندنا أنَّه لا يجوز تعاطيها لعطشٍ ولا لتداوٍ، واحتجَّ المانعُ بقول ابن مَسْعُودٍ في الكتاب، وقد رُوي هذا عن رَسُول اللهِ صلعم كما ستعلمُه، واحتجَّ الكوفيُّون بأنَّ الضَّرورة أباحت أكلَ ما حرَّم الشرع مِن المَيْتَةِ والدَّم ولحم الخِنْزِير والبولِ وما لا ينقلب إلى حالةٍ أخرى، فأنْ تُبيحَ الخَمْرَ أَوْلَى لأنَّها قد تنتقلُ مِن حالها إلى حال التخليلِ.
          وكان الشيخ أَبُو بَكْرٍ _فيما حكاه ابنُ القصَّار_ يقول: إن دفعَتْهُ إليها ضرورةٌ تَغْلب على ظنِّه أنَّه يتخلَّص بشربِها جاز؛ لأنَّه لو تغصَّص بلقمةٍ في حَلْقِهِ فلم يجد ما يدفعُها به واضطُرَّ أن يَردَّها بالخَمْر جاز له ذلك ولم يَجُز أن يمنعَه مِن هذه الحال فيصير كالمَيْتَةِ عند الضَّرورة، والأمر كما قال إن شاء الله.
          قلتُ: مسألة الغَصَّة النفعُ بها محقَّقٌ وهذا مظنونٌ فافترقا.
          فصْلٌ: وأثرُ ابن مَسْعُودٍ أخرجه ابن أبي شَيْبَة عن جريرٍ، عن مَنْصُورٍ، عن أبي وائلٍ: أنَّ رجلًا أصابه الصَّفَرُ فنُعِتَ له السَّكَرُ، فسُئل عبد الله عن ذلك فقال: إنَّ اللهَ لم يجعل شفاءَكم فيما حُرِّم. وعند أحمد: اسمُ الرجل خُثَيمُ بن العَدَّاء، قال ابن أبي شَيْبَة: وحدَّثنا مُحَمَّد بن فُضَيْلٍ عن العَلاءِ عن أبيه عن ابنِ مَسْعُودٍ قال: إنَّ أولادَكم وُلِدوا على الفِطْرة فلا تَسْقوهم السَّكرَ فإنَّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حُرِّم عليكم. ورواه ابن حبَّان في «صحيحه» مرفوعًا، ولأحمدَ مِن حديثِ غَنِيَّة بنتِ رَضِيٍّ الجَذْميَّة، عن عائِشَة ♦ أنَّها سُئلت عن صَبِيٍّ وُصِفَ له نبيذٌ في جُرَيرةٍ صغيرة، فقالت: أيُّ شيءٍ تريدين به، الشفاءَ؟ لا، هو سَقَمٌ.
          وقال ابن التِّين عن أبي الحَسَن: إن كان ابنُ مَسْعُودٍ أراد سَكَر الأشربةِ فيُمكن أن يكون سقَطَ مِن الكلام ذِكْر السؤال عن ذلك، وإن كان أراد السَّكْر _بسكون الكاف_ فهو الذي يُنتبذ به السَّكَرُ، فيمكن أن يكون الساقط: عنه، وأحسبهُ هذا أرادَ لأنِّي أظنُّ عند بعض المفسِّرين هذه الحكاية: وسُئل ابنُ مَسْعُودٍ وهو قائمٌ على المنبر عن التداوي بشيءٍ مِن المحرَّمات، فقال ذلك، فالله أعلم بما أراد البُخَارِيُّ مِن ذلك.
          قلتُ: قد أسلفنا المرادَ صريحًا، قال الدَّاوديُّ: قول ابن مَسْعُودٍ في السَّكَر هو الحقُّ لأنَّ اللهَ حرَّم الخَمْرَ ولم يذكر فيها ضرورةً، وأباح في الضَّرورة المَيْتَة والدَّمَ ولحمَ الخِنْزِير. ففَهِمَ الدَّاوُدِيُّ أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ تكلَّم على استعمال الخَمْر عند الضَّرورة وليس كذلك، وإنَّما تكلَّم على التداوي به، وذلك أنَّ التداوي به يَجِدُ الإنسان مَنْدُوحةً عنه بغيره، ولا يُقطعُ بنفعهِ بخِلاف استعمال المَيْتَة وأخواتها للضَّرورة وهي الجوع، وقد اختُلف في السَّكَر، فقيل: هي الخَمْر، وبه جزم الدِّمْيَاطِيُّ، وقيل: ما كان شُرْبُه حلالًا كالنَّبِيذ والخلِّ، وقيل: هو النَّبِيذ، قال الجَوْهَرِيُّ: هو نَبِيذُ التمر.
          فصْلٌ: وحديثُ عائِشَة ♦ في إسناده (أَبُو أُسَامَةَ) وهو حمَّاد بن أُسَامَة، مات سنة إحدى ومائتين، وفيها مات مَعْرُوفٌ الكَرْخيُّ.
          وقد سلف أنَّ الحَلْواءَ فيها ثلاثة أقوالٍ، قولُ الخطَّابيِّ: إنَّها ما تُصنع مِنَ العسلِ ونحوِه، وقال الدَّاوُدِيُّ: هو النَّقيع الحُلو، وعليه يدلُّ تبويبُ البُخَارِيِّ شُرب الحَلْواءِ، وقال أيضًا: هو التمرُ ونحوُه مِن الثِّمار، وتقدَّم أنَّ الأصمعِيَّ قصرَها وتُكتب بالياء، والفرَّاءَ مدَّها، وابنَ فارسٍ والجَوْهَرِيَّ حكياهما، وعبارة ابن بطَّالٍ: الحَلْواءُ كلُّ شيءٍ حُلْو.
          وفيه مِن الفِقه أنَّ الأنبياءَ والصَّالحين والفُضَلاء يأكلون الحَلَاوات والطيِّبات ولا يتركونَها تَقشُّفًا، وقد نزع ابنُ عبَّاسٍ أكلَ الطعام الطَّيِّب بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} الآية [الأعراف:32]، ومدارُها على أنَّ الطَّيِّباتِ الحلال، وكلُّ ما كان حلالًا _حُلوًا كان أو حامضًا_ فهو طيِّبٌ لمن استطابَه.
          قال ابنُ المنيِّر: ترجم البُخَارِيُّ على شيءٍ وأَعْقَبَه بضدِّه يشير إلى أنَّ الطَّيِّبات هي الحلالُ لا الخبائثُ، والحَلْواء مِن الطَّيِّبات، وأشار بقول ابن مَسْعُودٍ إلى أنَّ كونَ الشيءِ شفاءٌ ينافي كونَه حرامًا، والعسلُ شفاءٌ فوجب أن يكون حلالًا، ثمَّ عاد إلى ما يطابق الترجمة نصًّا، ونبَّهَ بقوله: شَرِبَ الحَلْوَاءَ، أنَّها ليست الحَلْواءُ المعهودة التي يتعاطى المُتْرَفُون، وإنَّما هي شيءٌ يُشرَب إمَّا عسلٌ بماءٍ أو غير ذلك ممَّا يشاكله.
          ويجوز أن يُقال: شربَ الحَلْواء والعَسَل، وربَّما هو الصَّحيح لأنَّ العربَ لا تعرف الحَلْواء المعَقْودة التي هي الآن مَعْهُودةٌ، وإن أطلقوا الاسمَ فما أظنُّهم _والله أعلم_ أطلقوه إلَّا على الحُلْوِ كالعسل والماء المنبوذ فيه التمر وغيره، وقد نبَّه عليه البُخَارِيُّ في الترجمة: بَابُ شُرْبِ الحَلْواءِ وَالعَسَلِ. والحَلْواءُ التي بأيدي النَّاس التي يُطْلقون عليها هذا الاسم لا تُشرَب، فتعيَّنَ أنَّ المقصودَ ما يمكن شُربُه وهو الماءُ المنبوذُ فيه التمر ونحوه وكذلك العسل.
          فإن قيل: قد قال في الترجمة: (وَالعَسَلِ) والحُلْو يشمل كلَّ حُلوٍ عسلًا وغيره، فنقول: هذا مِن قَبِيل التخصيص بعد التعميم، وهي قاعدةٌ معروفةٌ لقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرَّحْمَن:68] / ولا يخلو هذا النوع مِن التخصيص مِن فائدةٍ، ويحتمل أن تكون الفائدة التنبيه على جواز شُرب العسل إذ قد يتخيَّل أنَّ شُربَه مِن السَّرَف.
          قلتُ: ودعواهُ أنَّ العربَ لا تعرِفُ هذه الحَلْواءَ ليس كما قال، هم يعرفون الفَالُوذَج وهو لُبَابُ البُرِّ بسمنِ البقر يُعقد بالعسل الماذي وهو الذي نُسمِّيه الآن الصَّابونيَّة، وفيه شعرُ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ في ابنِ جُدْعَان المعروف، إلَّا أن يُقال: تَسْميتُه بالفَالُوذَج مُحْدَثةٌ.