التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشرب بنفسين أو ثلاثة

          ░26▒ (بَابُ الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ).
          5631- (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) هو الضَّحَّاك بن مَخْلَدٍ، (وَأبو نُعَيمٍ) هو الفضلُ بن دُكَينٍ (قَالَا: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ الله، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا).
          الشرح: هذا الحديث أخرجهُ مُسْلمٌ أيضًا والنَّسَائيُّ وابن ماجه والتِّرْمِذِيُّ وصحَّحه، ولَمَّا أخرجه النَّسَائيُّ مِن حديثِ قَتَادَة عن ثُمَامةَ، قال قَتَادَة: هذا الحديث خطأٌ.
          فإن قلت: ما الجمع بينه وبين حديث أبي قَتَادَة في الباب قبله: نهى عن التنفُّسِ في الإناء؟ قلتُ: أسلفت الجمع هناك، ويحتمل أيضًا أنَّ النَّهيَ عنِ الشُّرْب / وهو يتنفَّسُ فيه مِن غير أن يُبِيْنَهُ عن فيهِ، فإنْ أبانَهُ في كلِّ نفسٍ فلا بأس، وقد جاء أنَّه ◙ كان يتنفَّسُ ثلاثًا، ويقول: ((هُو أَمْرَى وأَرْوَى)) ذكره التِّرْمِذِيُّ، وفي «الموطَّأ» والنَّسَائيُّ: نهى رَسُولُ اللهِ صلعم عن النَّفْخ في الشراب، فقال رجلٌ: يا رَسُول اللهِ، إنِّي لا أَرْوَى مِن نَفَسٍ واحدٍ، قال: ((فَأَبِنِ القَدَحَ عن فيكَ ثمَّ تنفَّس))، وعليه يُحمَل حديث أنسٍ، ورواه ابن ماجه بلفظ: ((إذا شَرِبَ أحدُكم فلا يتنفَّسْ في الإناء، فإذا أراد أن يعودَ فليُنحِّ الإناءَ ثمَّ لِيَعُد إن كان يريد)) أخرجه مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وأخرجه التِّرْمِذِيُّ صحيحًا عن أبي سَعِيدٍ: نهى رَسُول اللهِ صلعم عن النَّفخ في الشراب، فقال رجلٌ: القَذَاةَ أراها في الإناء، فقال: ((أَهْرِقْهَا))، قال: فإنِّي لا أَرْوَى مِن نَفَسٍ واحدٍ، قال: ((فأَبِنِ القَدَح عن فيكَ))، ورواه أبو داودَ بزِيَادة: نهى رسول الله صلعم عن الشُّرب مِن ثُلْمَةِ الْقَدَحِ، ولفظُ الحاكم: ((إذا شَرِبَ أحدُكم فليشربْ بِنَفَسٍ واحدٍ)) ثُمَّ قالَ: صحيحٌ على شرط الشيخين، ورجَّح ابن بطَّالٍ الوجهَ الأوَّل، وقال: إنَّه أَوْلى بالصَّواب، لأنَّ عامَّةَ الفقهاء لا يختلفون أنَّه لو تنفَّس في الشراب لم يحرُم ذلك، وروى ابن المنذر عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((لا يتنفَّسْ أحدُكم في الإناء إذا شَرِبَ، ولكن إذا أراد أن يتنفَّس فليؤخِّرْه عن فِيهِ ثمَّ يتنفَّس)).
          وقال ابن العَرَبِيِّ: قال علماؤنا: هذا مِن مكارم الأخلاق، وحرامٌ أن يتناول الرجل أخاه بما يُقْذِره فإن فعلَهُ في خاصَّة نفسهِ ثمَّ جاء غيرُه فناوله إناءَه فَلْيُعْلِمه، فإن كتَمَهُ كان مِن باب الغِشِّ وهو حرامٌ، ولَمَّا ذكر ابنُ أبي عاصِمٍ حديثَ ابن عبَّاسٍ وحديثَ أبي قَتَادَة السَّالِفين ترجمَ للرُّخْصة في ذلك فذكر حديثَ أنسٍ: كان يتنفَّس في الإناء ثلاثًا ويقول: ((هو أَهْنَأُ وأَبْرأُ وأَمْرأ)).
          ولَمَّا ذكر الأثرم حديثَ أبي سَعِيدٍ قال: هذه الأحاديث في ظاهرها مختلفةٌ، والوجه فيها عندنا أنَّه يجوز الشربُ بِنَفَسٍ وباثنين وبثلاثةٍ وأكثر منها؛ لأنَّ اختلاف الرواية في ذلك يدلُّ على التسهيل فيه، وأنَّ اختيار الثلاث يحسُن، وأمَّا حديث النَّهي عن التنفُّس في الإناء فإنَّما ذلك أن يجعل نَفَسَه في الإناء، فأمَّا التنفُّس للراحة إذا أبانَهُ عن فيه فليس مِن ذلك.
          فصْلٌ: قد سلف أنَّ عِلَّة النَّهي لِمَا يُخشى أن يصيبَ منه، ومخالطة النَّفَس الماء لِمَا في النَّفَس مِن المُسْتَقْذَر، وقيل: إنَّه تكون منه النَّسَمَة.
          فصْلٌ: اختلفوا هل يجوز الشُّرْب بنفَسٍ واحدٍ؟ فروى عيسى عن ابن القاسِمِ: أنَّ مالكًا سُئل عن قول الرجل لرَسُول اللهِ صلعم: إنِّي لا أَرْوَى مِن نَفَسٍ واحدٍ...، الحديث السالف: أرى ذلك رُخْصةً أن يشربَ مِن نَفَسٍ واحدٍ ما شاء.
          يريد مالكٌ: أنَّه ◙ لَمَّا لم ينهَ الرجلَ أن يشربَ مِن نَفَسٍ واحدٍ، وقال له ما قال، عُلم أنَّ ذلك كالإباحة، وقد رُوي عن سَعِيد بن المُسَيِّب وعطاء بن أبي رَبَاحٍ أنَّهما أجازاه بِنَفَسٍ واحدٍ، وقال ميمونُ بن مِهْرَانَ: رآني عُمَر بن عبد العزيز وأنا أشربُ فجعلتُ أقطع شرابي فأتنفَّس، فقال: إنَّما نُهي أن يُتنفَّس في الإناء فأمَّا إذا لم يُتنفَّس في الإناء فاشربْ إن شئتَ بِنَفَسٍ واحدٍ، وروي عن ابن عبَّاسٍ وطَاوُسٍ وعِكْرِمَة كراهة الشُّرْب في نَفَسٍ واحدٍ، وقال: هو شُرب الشَّيطان.
          وقول عُمَرَ بن عبد العزيز تفسيرٌ لهذا الباب وأصلٌ له.
          فصْلٌ: قوله في حديث الباب قبلَه: (وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ) يريد الاستنجاءَ، وقد سلف في موضعه واضحًا.
          فصْلٌ: روى أبو نُعَيمٍ في «الطب» مِن حديثِ هِشَامٍ، عن أبي عِصَامٍ، عن أنسٍ: تنفَّسُوا في الإناء ثلاثًا فإنَّه أهنأُ وأمرأُ وأبرأُ، رواه أحمد بن مَنِيعٍ البَغَويُّ، عن أبي قَطَن، عن هِشَامٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان إذا شربَ تنفَّسَ في الإناء ثلاثًا، وقال: ((هو أهنأُ وأمرأُ وأبرأُ)).
          فصْلٌ: ورُوي النَّهيُ عن التنفُّس في الإناء مِن حديثِ عبد الكريم، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا، ذكرَه الأثرم، لكن روى رِشْدِين بن كُرَيبٍ، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ ☻: أنَّه ◙ شَرِب مِن ماءٍ فتنفَّس مرَّتين.
          فصْلٌ: روى أبو نُعَيمٍ الحافظ مِن حديثِ المُعَلَّى بن عُرفان، عن أبي وائلٍ، عن عبد الله: كان النَّبِيُّ صلعم يتنفَّس في الإناء ثلاثةَ أنفاسٍ، يُسمِّي عندَ كلِّ نَفَسٍ ويشكر في آخرهنَّ. ومِن حديثِ الرَّبيع بن بدرٍ، عن ابن سَمْعَانَ، عن نافِعٍ، عن مولاه: أنَّه ◙ كان إذا شَرِب قطَعَ ثلاثة أنفاسٍ، يُسمِّي الله إذا بدأ، ويحمدُهُ إذا قَطَع، ومِن حديثِ ثُبَيتِ بن كثيرٍ الضَّبِّيِّ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن ابن المُسَيِّب، عن بَهْزٍ قال: كان النَّبِيُّ صلعم يَستَاكُ عَرْضًا ويتنفَّس ثلاثًا ويقول: ((هو أَهْنَأُ وأَمْرأُ وأَبْرأُ)).
          فصْلٌ: قال ابن حَزْمٍ: لا يَحِلُّ النَّفخُ في ماءٍ، والشُّرْبُ مِن ثُلْمة القَدَحِ مباحٌ لأنَّه لم يصحَّ فيها نهيٌ، وقد وردت الإباحة في ذلك عن ابن عبَّاسٍ وابن عُمرَ ولا يُعرف لهما مخالفٌ مِن الصَّحابة إلَّا ما تقدَّم مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ، ولا يصحُّ لأنَّه مِن رواية قرَّة بن عبد الرَّحْمَن وهو ساقِطٌ.