التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ترخيص النبي في الأوعية والظروف بعد النهي

          ░8▒ (بَابُ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلعم فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ).
          5592- ساق فيه خمسةَ أحاديث: أحدُها حديث مُحَمَّد بن عبد الله أبي أحمدَ الزُّبَيْرِيِّ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ ☺: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأَنصَارُ: إِنَّهُ لا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ: فَلَا إِذًا.
          وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ بِهَذَا.
          حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنِ الأَوْعِيَةِ).
          وأخرجه أبو داود والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائيُّ.
          5593- ثانيها: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن أَبِي عِيَاضٍ) واسمُه عَمْرو بن الأسود، وقيل: قَيْسُ بن ثَعْلَبة العَنْسِيُّ الكُوفيُّ، كان حيًّا في ولاية مُعَاويَة، انفرد به البُخَارِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو / قَالَ: لَمَّا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ الأَسْقِيَةِ، قِيْلَ لَهُ: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الجَرِّ غَيْرِ المُزَفَّتِ.
          حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا، وَقَالَ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنِ الأَوْعِيَةِ). وأخرجهُ مُسْلمٌ وأبو داودَ والنَّسَائيُّ.
          5594- ثالثها: حديث إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ الرَّبَابِ، وهو إبراهيمُ بن يَزِيدَ: (عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ) وهو تَيْمِيٌّ أيضًا تيمِ الرَّبَابِ، مات في آخر ولاية عبد الله بن الزُّبَير (عَنْ عليِّ ☺: نَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنِ الدُّبَّاءِ وَالمُزَفَّتِ. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا).
          وأخرجهُ مُسْلمٌ والتِّرْمِذِيُّ مِن هذا الوجه وأبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ مالكِ بن عُمَيرٍ عنه.
          5595- رابعها: حديث مَنْصُورٍ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قُلْتُ للأَسْوَدِ: هَلْ سَأَلْتَ عائِشَةَ ♦ أُمَّ الُمْؤِمِنينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنينَ، عَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلعم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيْهِ؟ قَالَتْ: نَهَانَا أَهْلَ البَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالمُزَفَّتِ، قُلْتُ: أَمَا ذَكَرَتِ الحَنْتَمَ وَالجَرَّ؟ قَالَ: إنَّما أُحَدِّثُكَ بِمَا سَمِعْتُ، أُحَدِّثُكَ بِمَا لَمْ أَسْمَعْ).
          وأخرجهُ مُسْلمٌ والنَّسَائيُّ.
          5596- خامسها: حديث الشَّيْبانيِّ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى رَسُول اللهِ صلعم عَنِ الْجَرِّ الأخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ؟ قَالَ: لَا).
          وأخرجه التِّرْمِذِيُّ، و(الشَّيْبَانِيُّ) هو سُلَيْمَان بن فَيْرُوزَ أبو إسحاقَ، أمَّا حُكم الباب فقد سلف واضحًا، وحاصلُه أقوالٌ: ذهب مالكٌ إلى إجازة الانتباذ في جميع الظُّرُوف غيرِ الدُّبَّاء والمُزفَّت، فإنَّه كرِهَ الانتباذَ فيهما ولم يُنسخ عنده، وأَخذ في ذلك بحديث عليٍّ وعائِشَة ☻ أنَّه ◙ نهى عنهما، ورُوي مثله عن ابن عُمرَ، وذهب الشَّافِعِيُّ والثَّورِيُّ إلى كراهةِ الانتباذ في الدُّبَّاء والمزفَّت والحَنْتَم والنَّقِير للنَّهي عنها كما سلف في باب الخَمْر مِن العسل مِن حديثِ أنسٍ، وقد رُوِيَ النَّهيُ عن الانتباذِ في هذه الأربعةِ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ في حديثِ وَفْدِ عبد القيس كما سلف في الإيمان [خ¦53] والعِلْم [خ¦87].
          ومعنى النَّهي عندهم عن الانتباذ فيها لسرعةِ استحالةِ ما يُنبَذ فيها فتصير خمرًا، وهم لا يظنُّون ذلك فَيُواقِعُون ما نهى الله عنه، وذكر الطَّبَرِيُّ عن القائلين بتحريم الشَّراب المتَّخذِ في الأوعية المذكورةِ المنكرِين أن تكون منسوخةً عن عُمَرَ أنَّه قال: لأَنْ أشربَ مِن قُمْقُمٍ مَحْمِيٍّ فيحرقَ ما أحرقَ ويُبقي ما أبقى أحبُّ إليَّ أن أشربَ مِن نبيذ الجَرِّ، وعن عليٍّ النَّهيُ عنه، وعن ابن عُمرَ وابن عبَّاسٍ وجابرٍ وأبي هُرَيْرَةَ وأنسٍ مثله، وقال ابن عبَّاسٍ لأبي جَمْرةَ: لا تشربْ نبيذَ الجَرِّ وإن كان أحلى مِنَ العسل، وكرهه ابنُ المُسَيِّب والحَسَنُ.
          وقال إسماعيلُ بن إسحاقَ: قال سُلَيْمَان بن حَرْبٍ: كلُّ شيءٍ ذُكرَ عمَّن كان يشرب نبيذَ الجَرِّ أو يكرهه، فإنَّما هو الحُلو، فأمَّا المسكِرُ فهو حرامٌ في كلِّ وعاءٍ، وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: الانتباذُ في جميع الأوعية كلِّها مباحٌ، وأحاديثُ النَّهي عن الانتباذ منسوخةٌ بحديث جابرٍ وغيرِه، أَلَا ترى أنَّه ◙ أطلقَ لهم جميع الأوعية والظُّرُوف حتَّى قالت الأنصار: (إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، فَقَالَ: فَلَا إِذًا) ولم يستثنِ منها شيئًا.
          واحتجُّوا بحديث جابرٍ مرفوعًا قال: ((إنِّي نهيتُكُم أن تَنْتَبِذُوا في الدُّبَّاء والحَنْتَم والمزَفَّت، فانْتَبِذُوا وَلَا أُحِلُّ مُسْكِرًا))، ورواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ أيضًا مرفوعًا مثله، فيَثبُتُ بهذه الآثار نسخُ ما جاء في النَّهي عن الانتباذ في الأوعية وثبتَ إباحةُ الانتباذ في الأوعية كلِّها، وذكر الطَّبَرِيُّ عن ابن عُمرَ ☻: الأوعيةُ لا تُحِلُّ شيئًا ولا تُحرِّمهُ، وعن ابن عبَّاسٍ قال: كلُّ حلالٍ في كلِّ ظرفٍ حلالٌ، وكلُّ حرامٍ في كلِّ ظرفٍ حرامٌ، وهذا القول أَوْلى بالصَّواب، وقد تواترت الأخبار عن رَسُول اللهِ صلعم بتحريم كلُّ مُسْكِرٍ، وفي ذلك مَقنَعٌ.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: النَّهي عن الأوعية إنَّما كان قطعًا للذَّرِيعة، فلمَّا قالوا لرَسُول اللهِ صلعم: إنَّا لا نجدُ بُدًّا مِن الانتباذ فيها، قال: ((انْتَبِذُوا، وكلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ))، وكذلك كلُّ نهيٍ كان بمعنى التطرُّق إلى غيره يَسقط بمعنى الضَّرورة، وذلك كنهيه عن الصَّلاة بعد الصُّبح والعصر، ويجوز أن تُصلَّى الجنائز في تلك الساعتين لِمَا بالنَّاس مِن الضَّرورة إلى دَفْن موتاهم، وليس كذلك لصلاة النَّافلة ولا ضرورةَ إلى صلاتها حينئذٍ، وكنهيِه عن الجُلُوس في الطُّرقات، فلمَّا ذكروا أنَّهم لا يجدون بُدًّا مِن ذلك قال: ((إذا أَبَيْتُم فأعطوا الطَّريقَ حقَّهِ))، وذلك: غضُّ البَصَرِ، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وعون الضَّعيف، وإرشاد الضَّالِّ.
          وأمَّا الجرُّ الأبيضُ فهو مثلُ الأخضر لأنَّه كلَّه حَنْتَمٌ، وقال أبو عُبَيْدٍ: الحَنْتَمُ جِرَارٌ خُضْرٌ كانت تُحمل إليهم.
          فصْلٌ: قوله: (لَمَّا نَهَى عَنِ الأَسْقِيَةِ) يريدُ عن الظُّرُوف إلَّا الأَسْقِيَةَ، يوضِّحُهُ باقي الحديث إذ قيل له: (لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً) فرخَّص في الجرِّ غير المزفَّت، أي غير المَطْلِيِّ بالزِّفت، وَهُوَ حُجَّةٌ لمالكٍ أنَّ الرُّخصةَ لم تدخل في الدُّبَّاء والحَنْتَم وأخواتها.
          و(الدُّبُّاءُ) بالمدِّ والقصر جمعُ دُبَّاءَةٍ، و(الْحَنْتَمُ) الجِرارُ الخُضْرُ، وقال ابنُ حَبِيبٍ: هو الفخَّار كلُّه، وسبق قبل ذلك: النَّقِيرُ وهو ما عُمِلَ مِن خشبٍ، وقد سلَف الاختلافُ في علَّة النَّهي، فقيل: لئلَّا يبادرهم فيصير خمرًا فيشربونَه غير عالمين، وقيل: لأنَّ فيه إضاعة مالٍ، وإباحتُه ◙ الانتباذَ في الأَسْقِية وهي القُرَبُ لقلَّة حرارتِها فيؤمَنُ أن تصيرَ خمرًا، قال ابن السِّكِّيت: السِّقَاءُ يكون للَّبن والماء، والوَطْب يكون للَّبن خاصَّةً، والنِّحْي للسَّمن، والقِرْبة للماء، وَالْجَمْعُ الْقَلِيلُ أَسْقِيَةٌ وأَسْقِياتٌ والكَثِيرُ أَسَاقٍ.
          وقد اختُلف في النَّهي هل هو باقٍ؟ قالَ مالكٌ: نعم، وخالفَه ابنُ حَبِيبٍ وقال: ما كان بين نهيه عنها ورُخْصَته فيها إلَّا جُمعةٌ، وروى ابنُ حَبِيبٍ عن مالكٍ أنَّه أرخصَ في الحَنْتَم، وروى القاضي أنَّه محرَّم، وإذا قلنا بالنَّهي ففعل، قال مُحَمَّدٌ: يؤدَّب / في الخَلِيطَين، وقال عبد الوهَّابِ: إن سلِم مِن السُّكْر فلا بأس، وهو أحسنُ كما قال ابنُ التِّين.