التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة

          ░10▒ (بَابُ البَاذَقِ، وَمَنْ نَهَى عَنْ كلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأَشْرِبَةِ.
          وَرَأى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدةَ وَمُعَاذٌ ♥ شُرْبَ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ البَرَاءُ وأَبُو جُحَيْفَةَ ☻ عَلَى النِّصْفِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ العَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا، وَقَالَ عُمَرُ ☺: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللهِ رِيحَ شَرَابٍ وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ).
          5598- ثُمَّ ساقَ حديثَ أبي الجُوَيْرِيَة: (سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ البَاذَقِ، فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ البَاذَقَ، فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ: الشَّرَابُ الحَلَالُ الطَّيِّبُ، قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الحَلالِ الطَّيِّبِ إلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ).
          5599- وحديثَ عائِشَة ♦ قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالعَسَلَ).
          وهذا سلف في الأطعمة [خ¦5431]، وهذه التعاليقُ سلفت مِن «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة.
          و(البَاذَقُ) بفتح الباء ثمَّ ألفٍ ثمَّ ذالٍ معجمةٍ مفتوحةٍ ثمَّ قافٍ، وهو الطِّلَاءُ المطبوخُ مِن عصير العِنَب وكان أوَّلُ مَن صنعَهُ وسمَّاه بنو أُمَيَّة لينقلوه عن اسم الخَمْر، وكلُّ مُسْكِرٍ فهو حرامٌ لأنَّ الاسمَ لا ينقلُه عن معناه الموجود فيه، وما ذكرتُه مِن فتح الذَّال هو ما قال ابن التِّين أنَّه ضُبط به، ونقل عن الشيخ أبي الحَسَن عن بعض الحُذَّاق أنَّه اسمٌ حدَث بعد رَسُول اللهِ لم يكن قديمًا في العرب، وسُئل عن فتح الذال فقال: ما وقفناهم عليه، ولكن الذين قرؤوا بكسرها، وقال أبو عبد الملك: سُمِّي بالباذَقِ الخَمْرُ المطبوخ.
          قال ابن التِّين: وقول ابن عبَّاسٍ: (سَبَقَ مُحَمَّدٌ البَاذَقَ) يريد أن الباذَق لم يعرفه رَسُول اللهِ صلعم، لأنَّ هذا الاسم فارسِيٌّ عرَّبته العربُ فردَّته إلى حدِّ السُّكْر، أي ليس الاعتبارُ بالأسماء إنَّما هو بما أسكَرَ، وذكر القزَّازُ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ نهى عن شربِه، وعند الجواليقيِّ: باذَه أي باقٍ، وقال الدَّاوُدِيُّ: وهو يشبه الفُقاع إلَّا أنَّه رُبَّما اشتدَّ، وإنَّما لم يعرفْه ابنُ عبَّاسٍ لأنَّه اسمٌ مولَّدٌ، وعبارة المُهَلَّب: يعني سبقَ مُحَمَّدٌ صلعم بتحريم الخَمْر قبل تسميتهم لها بالباذَق، وهو مَن شَرِبَ العسل، وليس تسميتُهم لها بغير اسمِها بنافعٍ لها إذا أسكرَت، ورأى ابنُ عبَّاسٍ وأُبيٌّ أنَّ سائلَه أراد استحلالَ الشرابِ المحرَّمِ بهذا الاسم فحَسَم منه رجاءَه وباعَدَ منه أملَه، وأخبره أنَّ ما أسكرَ فهو حرامٌ.
          وزعم ابن قُرقُول أنَّه طِلَاءٌ مطبوخٌ مِن عصير العِنَب، وقال ابن سِيدَهْ: هو الخَمْر، وقال القزَّاز: هو ضرْبٌ مِن الأشربة، ومالكُ بن أسماءَ هو شاربُه وذكر فيه شِعرًا، وذكر أبو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيُّ مِن الحنفيَّة في كتابه «التنبيه»: أنَّ شاربَ المطبوخ أعظمُ ذنبًا وإثمًا مِن شارب الخَمْر؛ لأنَّه ◙ قال: ((مَا أسكَرَ الفَرَقُ منه فالجَرْعةُ منه حرامٌ))، وذلك أنَّ شاربَ الخَمْر يكون عاصيًا فاسقًا وشارب المطبوخ يشربُ المُسْكِرَ وسمَّاه حلالًا، وقام الإجماع على أنَّ قليلَ الخَمْر ككثيره، وقال: ((كلُّ مُسْكِرِ خمرٍ حرامٌ)) فإذا استحلَّ ما هو حرامٌ بالإجماع صار كافرًا.
          فصْلٌ: و(الطِّلَاءِ) بالمدِّ وكسر الطاء كما ضبطَه ابن ولَّادٍ، وهو الشَّراب المطبوخ مِن عصير العِنَب وهو الرُّبُّ، وأصله القَطِران الخاثِرُ الذي تُطلى به الإبلُ، قال القزَّاز: هو ضعيفٌ مِنَ الخَمْر، وهو أن يُغلَى عصير العنب حتَّى يذهبَ ثُلُثاه ويبقى ثُلُثه، شُبِّه بطلاءِ الإبل لثِخَنه وسوادِه وليس بحرامٍ، وإنَّما سمَّيناه خمرًا لأنَّ بعض النَّاس يجعل الطِّلاءَ الخَمْر، ومِن هذا قول عَبِيدِ بن الأَبْرَصِ:
هِيَ الْخَمْرُ تُكْنَى الطِّلَا                     كَمَا الذئبُ يُكْنى أَبا جَعْدَه
          ولو قيل: هي الخَمْر يُكْنونَها بالطِّلَاء لصحَّ أيضًا، وقال ابن سِيدَه: هو خاثرُ المنصَّف، وقال اللِّحْيَانيُّ: الطِّلاءُ مذكَّرٌ لا غير، وقال الجَوْهَرِيُّ: تُسمِّيه العجم: الميْبَخْتُج. وزعم ابن حَبِيبٍ أنَّ شربَه لا يجوز حتَّى يذهب ثُلُثاه في الطَّبخ ويوقَنَ أن لا يُسكر، وسُئل عِكْرِمَة عن الميْبَخْتُج؟ فقال: كان بالماء فاحييتموه بالماء.
          فصْلٌ: شرابُ الطِّلاء على الثُّلُث هو ما صنعَهُ عُمَر لأهل الشام كما قاله ابن بطَّالٍ: أن يُطبَخ العصير حتَّى يذهبَ ثُلُثاه ويبقى ثُلُثه، وحدُّهُ أن يتمدَّد ويُشبه طِلاء الإبل، وبذلك شبَّهه عُمَرُ بن الخطَّاب، فهذا الذي يُؤمن غائلتُه، والطِّلاء هو طبيخُ العِنَب الثَّخِين.
          واختلف العلماء في شُربهِ، فقال كثيرٌ مِن الصَّحابة والتابعين: إذا ذهب ثُلُثاه وبقي ثُلُثه فهو جائزٌ شربُه، وهو قول عُمَرَ بن الخطَّابِ وعليِّ بن أبي طالبٍ وأبي عُبَيْدةَ ومُعَاذٍ وأبي طلحَةَ وأبي الدَّرداء وأبي أُمَامَة الباهِلِيِّ، ومِنَ التابعين: الحَسَن وعِكْرِمَة وابن المُسَيِّب، وهو قول مالكٍ والثَّورِيُّ واللَّيْث وأحمد، وكلُّهم أجاز شربَه إذا ذهب ثُلُثاه لأنَّه لا يُسكر كثيره، وفيه قولٌ ثانٍ: أن يذهب النِّصْف بالطبخ، ورُوي أنَّه أجاز شربَه البراءُ وأبو جُحَيْفَةَ وجريرٌ وأنسٌ، ومِن التابعين: ابنُ الحنفيَّةِ وعُبَيْدة وشُرَيْحٌ والحكمُ بن عُتَيْبَةَ والنَّخَعِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، وأجازه أبو حنيفةَ وصاحباه واحتجُّوا أنَّه لا يجوز أن يشربَ أحدٌ مِن الصَّحابة والتابعين ما يُسكر لأنَّهم مجمعون أنَّ قليلَ الخَمْر / وكثيرَها حرامٌ، وأمَّا الذي كرهَه فإنَّهُ تورَّعَ عنه.
          فصْلٌ: قوله: (لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ) معناه أنَّ المشتبهاتِ تقعُ في حيِّزِ الحرام وهي الخَبَائث، قال إسماعيلُ بن إسحاقَ: في قول ابن عبَّاسٍ هذا ردٌّ لِمَا رُوي عنه أنَّه قال: حُرِّمت الخَمْر بعينِها والسُّكْر مِن كلِّ شرابٍ، والصَّحيح عنه: المُسْكِر، كما رواه شُعْبَة وسُفْيَان، وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ مِن وجوهٍ ما يضعِّفُ رواية الكوفيِّين عن مِسْعَرٍ، ثُمَّ ساقَ مِن حديثِ إسماعيلَ عن ليثٍ، عن عَطَاءٍ وطَاوُس ومُجَاهِدٍ، عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: قليلُ ما أسكرَ كثيره حرامٌ، ومِن حديثِ حمَّادِ بن زيدٍ، حدَّثنا أبو حَمْزَة قال: سمعتُ ابن عبَّاسٍ يقول: لا تشربْ نبيذَ الجَرِّ وإن كان أحلى مِنَ العسل. قال إسماعيلُ: فإذا كان هذا فُتيا ابن عبَّاسٍ فكيف يُقبَل عنه خِلافُه.
          فصْلٌ: وأمَّا حديث: (كَانَ يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالعَسَلَ) فهو الحلالُ الذي لا يُشكُّ في طيبِه، فالحَلْوَاء تُطبَخ حتَّى تَنْعَقِد، والعسل يمتزجُ بالماء فيُشرب مِن ساعتهِ، فهذا الذي لا شكَّ في طِيبه وَحِلِّه.
          فصْلٌ: وفي حديث عُمَر مِن الفِقه: الجَلْدُ في رِيح الشراب الذي يُسكِر كثيرُه، أَلَا ترى قوله: (وَأَنَا سَائِلٌ عَنْه، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ حَدَدْتُهُ) ولم يخصَّ بذلك السُّكْر مِن خمر العِنَب بل أطلقَ ذلك على ما يُسكر مِن جميع الأشربة، وُروي عن ابن مَسْعُودٍ أنَّه وردَ حِمْصَ فشمَّ مِن رَجُلٍ رِيْحَ خمرٍ فحدَّه، ولا مخالفَ له مِن الصَّحابة، وعن عُمَرَ بن عبد العزيز مثله، قال ابن المنذر: وبه قالَ مالكٌ، قال: إذا شهد عدلانِ ممَّن شَرِبَ الخَمْر في كفرِه ثمَّ أسلَمَ، أو شربَها في إسلامه فحُدَّ ثمَّ تاب منها، وقالا: إنَّها ريحُ مُسْكرٍ جاز الحدُّ، وقال عطاءٌ: لا حدَّ إلَّا بالبيِّنة لأنَّ الرِّيح يكون مِن الشَّراب الذي ليس به بأسٌ، وهو قول أبي حنيفةَ والشَّافِعِيِّ، وقالوا: لا يُحدُّ الذي يوجد منه رِيح الشراب إلَّا أن يقول: شربتُ مسكرًا، أو يشهد عليه بذلك، قالوا: لأنَّ الروائح تتَّفِق فرائحة التُّفَّاح الشاميِّ والخَمْر تتَّفِق، ودَرْءُ الحدِّ بالشُّبهة أَوْلَى، وحُجَّة مالكٍ أنَّ رائحة الخَمْر وإن تشابهت فإنَّهُ إذا تأمَّلَها مَن يعرفُها لم تختلط مع غيرها وإن تقاربت، وقد تشتبهُ الألسنُ والرَّوائح، ثمَّ لا بدَّ مِن الفرق بينهما كما تقول في شهادة الأعمى على الصَّوت.
          وقال ابن المنذر: رُوي عن عَطَاءٍ: لا يُحدُّ في شيءٍ مِن الشراب حتَّى يَسكر إلَّا الخَمْر، وبه قال أبو حنيفة، وعن ابن أبي ليلى والنَّخَعِيِّ: لا يُجلَد السَكْرَان مِن النَّبِيذ حدًّا، وقال أبو ثورٍ: مَن كان المُسكِر عندَه حرامًا فَشَرِب منه ما يُسكر حَدَدْتُهُ، ومَن كان متأوِّلًا مُخطئًا في تأويله فشَرِبَهُ على خبرٍ ضعيفٍ قلَّده واتَّبع أقوامًا لم يكن عليه حدٌّ، وذلك أنَّا لا نحدُّ إلَّا مَن فَسَق، إنَّما الحدُّ على مَن عَلِمه، وأمَّا مَن أتى بشيءٍ ظنَّه حلالًا فلا حدَّ عليه.
          قال ابن المنذر: وقد ثبتَ عن النَّبِيِّ صلعم أنَّه قال: ((مَن شَرِبَ الخَمْرَ فاجلدوه)) فالحدُّ على شاربه واجبٌ سَكِر أم لا على ظاهر الحديث، وكلُّ شرابٍ أسكرَ كثيره فهو حرامٌ، وقليله حرامٌ للأخبار الثابتة.
          وقول عُمَرَ: (وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْد اللهِ رِيحَ شَرَابٍ) وفي «الموطَّأ»: ريحَ... فزَعَمَ أنَّه شرب الطِّلَاء، يُعَكِّر عليه ما أسلفناه عن عُمَرَ من تجويزه شُربَ الطِّلاء إلَّا أن يكون أراد به المُنصَّف، قال ابنُ التِّين: وفيه الأخذُ بالرائحة إذا لم يشكَّ فيها، وسؤال الإمام عمَّا يشكُّ فيه، قال: وما رآه عُمَر فمَن بعده يريد ذهب ثُلُثاه وبقي ثُلُثه، وإنَّما أتى به على معنى البيان _أعني قولَه: (عَلَى الثُّلُثِ)_ لأنَّ الطِّلاءَ هو ما طُبخ مِن عصير العِنَب حتَّى ذهب ثُلُثاه، وتسمِّيه العرب أيضًا الميبَخْتُج كما سلف، وبعض العرب تسمِّي الخَمْرَ الطِّلاء يريد تحسينَ اسمها لا أنَّها الطِّلاء نفسه، قيل: وإنَّما سمِّي بذلك لأنَّه إذا ذهب ثُلُثاه بالطبخ ثَخُنَ واسودَّ فشُبِّه بطِلَاء الإبل، وهذا جعله بعض العلماء حدَّه إذا ذهب ثُلُثاه لم يُسكر.
          قال في «المدوَّنة»: ولم يلتفت مالكٌ إلى ثُلُثين مِن ثُلُثٍ، وإنَّما قال: حدُّه إذا طُبخ فلم يُسكِر، وقال ابن حَبِيبٍ: لا يجوز إلَّا باجتماع وجهين: أن يذهب ثُلُثاه بالطبخ، ويُوقنَ أنَّه لا يُسكِر، وقال مُحَمَّدٌ: أكثر ما يُعرف مِن العصير إذا طُبخ فذهب ثُلُثاه إلَّا ثَخُنَ وحلَّ ولم يُسكر، قالَ مالكٌ: وليس ذلك في كلِّ عصيرٍ ولا في كلِّ بلدٍ.
          فصْلٌ في بيان كُنًى وأسماءَ وَقَعت في الآثار:
          (أَبُو جُحَيْفَةَ) اسمُه وَهْبُ بن عبد الله بن مَسْلَمَةَ بن جُنَادةَ بن جُنْدُبِ بن حبيب بن رِئَابِ بن حجير بن سُواءة بن عامِرِ بن صَعْصَعة، و(أَبُو عُبَيْدَةَ) عامرُ بن عبد الله بن الجرَّاح بن هِلالِ بن وُهَيبِ بن ضبَّةَ بن الحارثِ بن فِهْرٍ، و(مُعَاذٌ) هو ابن جبلِ بن عَمْرو بن أوْسِ بن عائِذِ بن عَدِيِّ بن كعبِ بن عَمْرو بن أدي أخي سَلَمَةَ ابنَي سَعْد بن عليِّ بن أسدِ بن سَارِدَة بن يَزِيدَ بن جُشَم بن الخَزْرَج أخي الأوسِ ابنَي حارِثَةَ، وأَبُو الجُوَيْرِيَةِ اسمُه حِطَّانُ بن خُفَاف الجَرْميُّ، انفرد به البُخَارِيُّ، وهُم جماعةٌ تكنُّوا بذلك: عبد الرَّحْمَن بن مَسْعُودٍ العَبْدِيُّ سمع ابنَ الحنفيَّة وعنه الصَّلْت بن بَهْرَامَ، وعبدُ العزيز بن نهار سمعَ أمَّ سعيدٍ عن عائِشَة وعنه نصر بن عليِّ، وعبدُ الحُمَيد بن عِمرانَ كُوفيٌّ نزل المدينةَ عن حمَّاد بن أبي سُلَيْمَانَ وعنه حمَّادٌ الخيَّاطُ. مِن الكُنى لمسلمٍ.