التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اختناث الأسقية

          ░23▒ (بَابُ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ).
          5625- ذكر فيه حديثَ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺: (نَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا).
          5626- وفي رواية: (نَهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ) يَعْنِي الرَّاوِي عَنْ يُونُس (قَالَ مَعْمَرٌ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا).
          وأخرجهُ مُسْلمٌ وأبو داودَ وابن ماجه والتِّرْمِذِيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ، وذكرَ أنَّ في الباب عن جابرٍ وابن عبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
          واسمُ (أَبِي سَعِيدٍ) سَعْدُ بن مالك بن سِنَانَ، وفيه (ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) واسمُه مُحَمَّدُ بن عبد الرَّحْمَن بن المغيرة بن الحارثِ، أبو الحارثِ، فقيهُ أهل المدينة ممَّن كان يأمرُ بالمعروف.
          وفي روايةٍ لابن أبي عاصِمٍ بإسنادٍ صحيحٍ قال: شَرِبَ رجلٌ مِنَ فِي السِّقاءِ وهو قائمٌ فانسابَ في بطنِهِ جانٌّ، فنهى رَسُول اللهِ صلعم عن اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، ولابن ماجه مِن حديثِ سَلَمَةَ بن وَهْرَامَ، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ: نهى رَسُولُ اللهِ صلعم عن اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أن تُشرب مِن أفواهها وأنَّ رَجُلًا بعدما نهى رَسُول اللهِ صلعم عن ذلك قام مِن اللَّيل إلى سِقَاءٍ فاخْتَنَثَهُ فَخَرَجَت عليه منه حيَّةٌ. وأصله عند التِّرْمِذِيِّ مصحَّحٌ، قال الأثرمُ: وفي هذا بيانُ ما ذَكَرنا مِن أنَّ النَّهي كان بعدَ الفعل، وأنَّهم كانوا يفعلونَه على ما في حديث كَبْشَةَ: أنَّه ◙ شَرِبَ مِن فَمِ قِرْبَةٍ، وكذا رواه أَنس بن مالكٍ حتَّى نُهوا عنه.
          قال ابنُ حَزْمٍ: فإن قيل إنَّه ◙ شَرِبَ مِن فَمِ قِرْبَةٍ، قلنا: لا حُجَّة في شيءٍ مِن ذلك لأنَّ أحدها مِن طريق الحارثِ بن أبي أُسَامَة، وقد تُرك، وفيه البَرَاء ابنُ بنتِ أنسٍ، وهو مجهولٌ _قلتُ: لا، حالتُه معلومةٌ بالثِّقة فيما ذكره ابن حبَّان_ وآخرُ مِن طريق يزيدَ بن جابر، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عَمْرَةَ، ولا أعرفه _قلتُ: ابنُ أبي عَمْرَةَ معروفٌ وحديثُه عند الجماعة وأثنى عليه غير واحدٍ_ وآخر مِن طريقِ رجلٍ لم يُسمَّ، ثمَّ لو كان ذلك صحيحًا كانت تكون موافقةً للمعهود بالأصل، والنَّهيُ بلا شكٍّ إذ وردَ ناسخٌ لتلك الإباحة بلا شكٍّ، ومِن المحالِ أن يعودَ المنسوخ ناسخًا أو لا يأتي بذلك بيانُ جلي.
          ثمَّ ذكر أنَّه صحَّ عن ابن عُمرَ أنَّه شَرِب مِن فمِ إِدَاوةٍ، وروى ابن وَهْب فيه عِلَّةً أخرى وهي أنَّه يُنْتِنُه، رُوي عن ابن عِيَاضٍ، عن هِشَامِ بن عُرْوَة، عن أبيه: أنَّه ◙ نهى أن يُشربَ مِنِ في السِّقاء، وقال: إنَّه يُنْتِنُه.
          قال ابن التِّين: فأظنَّ أنَّ هذه الأخبار لم تبلُغ مالكًا، فلذلك أجاز الشُّرْب مِن أفواهها، وقال: ما بلغني فيه نهيٌ، قيل: فمِن ثُلْمَةِ القَدَحِ وما يلي الأُذُن؟ قال: قد سمعتُ فيه سماعًا وما علمتُ فيه شيئًا، وكأنَّه يضعِّفُهُ، وذلك أنَّ التِّرْمِذِيَّ روى عن عبد الله بن أُنيس قال: رأيتُ النَّبِيَّ صلعم قام إلى قِرْبَةٍ مُعَلَّقةِ فحلَّها ثمَّ شَرِب مِن فيها، وروى أبو داودَ مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّه ◙ نهى عن الشُّرب مِن ثُلْمَةِ القَدَح، والنَّفْخِ في الشراب، وقالَ مالكٌ: يُكره النَّفخ في الطَّعام والشراب جميعًا.
          وقد تحصَّلْنَا على معنيين: إمَّا أن يكون فيه حيوانٌ، وفي معناه: قذًى يَبْتَلِعُهُ، وإمَّا لِنَتْنِ أفواهها، وقد تخرَّصهما ابنُ العَرَبِيِّ وذكرتُهما لك عن النصِّ، وأَبْدَى بالباء، وهو لئلَّا يغلبَهُ الماءُ فيقعَ عليه أكثر مِن حاجتهِ فَيَشْرقَ أو يبلَّ ثيابه، وواحدُها يكفي ومجموعها أقوى في المعنى.
          وشربُهُ ◙، قالوا: للضَّرورة، إذ كانت حال حربٍ فعدم الإناء، ولم يُعطِ الحالُ التمكُّن مِن التفريغ معه، لكن كان شربُه في بيتٍ وهي حالةُ تمكُّنٍ لا حَربٍ، أو لعلَّهُ إنَّما شرب مِن إِدَاوةٍ، والنَّهيُ محمولٌ على القِرْبة الكبرى، ويحتاج إلى مزيد نقلٍ مِن أهل اللُّغة، ثمَّ إنَّ شربَه مِن فِيها جائزٌ لطِيبِ نَكْهتهِ وعِصْمَته مِن أذى الحيوان وأمنِهِ بتلطُّفه عن صبِّ الماء.
          وقال المُهَلَّب: معنى هذا النَّهي _والله أعلم_ على وجه الأدب؛ لجواز أن يكون في أفواهِها حيَّةٌ أو بعض الهوامِّ لا يراها الشارب فتدخلَ جَوفَه، وقد قيل: إنَّ ذلك على سبيل التقذُّر لأنَّه لا يدخلها فِيهِ.
          فَائِدةٌ: تقول العرب: خَنَثْتُ السِّقَاءَ وانْخَنَث السِّقَاء إذا مالَ، ومنه قيل للمُخنَّث: مخنثٌ لتكسُّرهِ وميلهِ إلى شَبه النِّسَاء.
          فصْلٌ: قوله: (يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا) قال الخطَّابيُّ: أحسِب هذا التفسير عن الزُّهْرِيِّ، ومِن هنا اشتُقَّ المخنَّث لتكسُّرهِ وتثَنِّيهِ.
          وقوله: (أَفْوَاهُهَا) جَمَعَ فمًا على أفواهٍ لأنَّ أصل فم: فُوه، نُقصت منه الهاء لاستثقالهم اجتماعَ هاءين في قولك: هذا فُوهُهُ بالإضافة، فحذفوا الهاء فلم تحتمل الواو الإعرابَ لسكونها فعوَّضوا منها الميم، فإذا صغَّرتَ أو جمعْتَ رَدَدتَهُ إلى أصله، فقلتَ: فُوَيْه وأفواه، / ولا تقل: أفماء.
          وفيه لغاتٌ: فتحُ الفاء منه رفعًا ونصبًا وجرًّا وكسرُها مطلقًا، ومنهم مَن يُعرِّفه في مكانين فيقول: رأيتُ فمًا، وهذا فمٌ، وعجبتٌ مِن فمٍ، وأمَّا تشديد الميم فيجوز في الشِّعر، كقوله:
يَا لَيْتَها قد خَرَجَتْ مِن فُمِّهِ                     حَتَّى يَعُودَ المُلْكُ فِي أُسْطُمِّهِ
          قال ابن السِّكِّيت: ولو قيل: من فَمِه بفتح الفاء لجاز، وقال ابن فارس: يُقال: فُمٌّ بالضمِّ والتشديد، ولم يكن ضرورة شِعْرٍ، وهو ما في «الصِّحاح».