التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأيمن فالأيمن في الشرب

          ░18▒ (بَابُ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ).
          5619- ذكر فيه حديثَ أنسٍ ☺: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ).
          أخرجهُ مُسْلمٌ أيضًا، وذلك إكرامٌ للمَيَامِنِ، قال المُهَلَّبُ: التَّيَامُن في الأكل والشُّرْب وجميعِ الأشياء مِن السُّنن، وأصلُهُ ما أثنى الله به على أصحاب اليمين في الآخرة، فكان ◙ يحبُّ التَّيَامُن استشعارًا منه لِمَا شرَّف اللهُ تعالى به أهلَ اليمين، ولئلَّا تكون أفعالُهُ كلُّها إلَّا مُرادًا بها ما عندَ الله تعالى وليحتذي حكمةَ الله تعالى في أفعاله.
          وفيه أنَّ سنَّةَ المناولة في الطعام والشراب مِن على اليمين، قال غيره: وما رُوي عن مالكٍ أنَّه قال: ذلك في الماء خاصَّةً، فلا أعلم أحدًا قاله غيره، وحديث عائِشَة ♦: أنَّه ◙ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. يعمُّ الماءَ وجميعَ الأشياء، قال ابنُ عبد البرِّ: ولا يصحُّ ذلك عن مالكٍ، قال ابن العَرَبِيِّ: وهي روايةٌ أنكرَها قومٌ ووجْهُها أنَّ الماءَ مباحُ الأصل فإذا أخذ الشاربُ منه حظَّه رجع الباقي إلى الأصل فيأخذه الأيمنُ فالأيمنُ بالفضل بخِلاف سائر الأطعمة، ويضعَّفُ هذا بأنَّ الماءَ وإن كان مباحَ الأصل فإنَّهُ إذا صارت عليه اليد اتَّصلَ به المُلك فصار كسائر الأملاك، ولتعارُضِ هذين الأصلين فيه اختلف العلماء في جريان الرِّبَا فيه والقطع في سرقتهِ.
          فصْلٌ: وإنَّما أعطى الأيمنَ لِمَا أسلفناه مِن إكرام الميامن، وقال القُرْطُبِيُّ: إنَّما أعطاه ليتألَّفَهُ فإنَّهُ كان مِن كُبراءِ قومِه، ولذلك جلس عن يمينه، أو لأنَّ ذلك سُنَّةٌ وهو الأظهرُ.
          قلت: الأعرابيُّ لعلَّه سبق إلى اليمين ولذلك لم يُقِمْه لأجل الصدِّيق فإنَّه سبقَه به بخلاف الصَّلاة لقوله: ((لِيَلِني منكم أُولو الأحلام والنُّهى))، أَلَا ترى أنَّ عبدَ الله كما في التِّرْمِذِيِّ وهو الصَّحيح، أو الفضلَ كما قال ابن التِّين وهو غلامٌ، لمَّا سبق وجلس عن يمينهِ وجلس أَبُو بَكْرٍ عن يساره، وأُتي بماءٍ فَشَرِبَ، فقال له عُمَر: أعطِ أبا بكْرٍ، فأعطاه عبدُ الله وليس هو بأكبرَ ولا بأحقَّ مِن الصدِّيق، أو أراد أنَّ الأعرابيَّ لا يَسْتوحِش في صرف ذلك إلى أصحابه، أو ربَّما سبق إلى قلبهِ شيءٌ فَيَهْلِك لقُرْب عَهْدهِ بالجاهليَّة وعدمِ معرفتِه بخُلقِهِ.
          وفي «صحيح مُسْلمٍ»: قال أنسٌ: فهي سُنَّةٌ، فإنْ لم يكن على اليمين أحدٌ فالأكبر لقولِه ◙ في حديث حُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ: ((الكُبْرَ الكُبْرَ))، وهو عُمُومٌ لا يجوز العُدُول عنه إلَّا بنصٍّ صحيحٍ لحديث أمِّ الفضل الذي تقدَّم، وأنَّه شَرِب بحضرة النَّاس ولم يناول أحدًا، وحديثِ امرأةِ أبي أسيدٍ فإنَّها خصَّتهُ ◙ بشيءٍ سَقَتْهُ به.
          فصْلٌ: وقوله: (الأَيْمَن فَالأَيْمَن) ضُبط بالرفع على تقدير: الأيمنُ أحقُّ، وبالنَّصب على: أعطِ الأَيْمَنَ، وفي روايةٍ: ((الأيمنون)) وهو ترجيحٌ للرَّفع.