التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشرب قائمًا

          ░16▒ (بَابُ الشُّرْبِ قَائِمًا).
          5615- ذكر فيه حديثَ شيخِه أبي نُعَيْمٍ، وهو الفَضْلُ بن دُكَينٍ: (حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) وهو ابن كِدَامِ بن ظُهَيرٍ الهلاليُّ (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ) وهو ابنُ سَبْرَةَ الهِلَاليُّ، انفرد به البُخَارِيُّ (قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ ☺ عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ، فَشَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ).
          5616- ثمَّ رواه مِن طريقٍ آخَرَ عنه، وَفِيْهِ: (عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ).
          5617- ثُمَّ ساقَ حديثَ ابن عبَّاسٍ: (شَرِبَ النَّبِيُّ صلعم قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ).
          ░17▒ ثمَّ ترجم: (بَابُ مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ).
          5618- ثُمَّ ساقَ حديثَ أبي النَّضْر سالِمٍ: (عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ) وهي لُبَابَةُ (أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ).
          الشَّرح: الذي أراه تقديم الأحاديث الواردة في الباب، ثمَّ أجمع بينها فأقول: روى التِّرْمِذِيُّ مصحَّحًا عن كَبْشَة: دخل عليَّ رَسُول اللهِ فَشَرِب مِن فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ. وروته كُلْثُمُ أيضًا: أخرجه أبو مُوسَى المَدِينيُّ في كتابه «معرفة الصَّحابة» مِن حديثِ يزيدَ بن جابرٍ، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عَمْرَة، عن جدَّته كُلْثُمِ قالَت: دخل عليَّ رَسُولُ اللهِ فَشَرِبَ مِن قِرْبَةٍ مُعَلَّقةٍ وهو قائمٌ.
          ورواه ابنُ عُمرَ: كنَّا نأكلُ على عهد رَسُول اللهِ صلعم ونحن نمشي، ونشربُ ونحن قيامٌ. أخرجه التِّرْمِذِيّ وقال: حَسَنٌ صحيحٌ غريبٌ مِن حديثِ عُبَيْد الله بن عُمرَ عن نافِعٍ عن ابن عُمرَ، قال: وروى هذا الحديثَ أبو البَزْرِيِّ عن ابن عُمرَ. وهذا أخرجه صاحبُ «المنتقى» ابنُ الجَارُود الذي زادَه على «الصَّحيحين»، وابنُ حبَّان في «صحيحه». ورواه سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ: أنَّه ◙ كان يشربُ قائمًا، أخرجه الضِّياء في «صحيحه». وعبدُ الله بن أُنَيْسٍ أخرجَه الطَّبَرَانِيُّ عن الحَسَن بن عبد الأعلى وآخرَ معه عن عبد الرَّزَّاق، عن عبد الله بن عُمرَ، عن عيسى بن عبد الله بن أُنَيسٍ عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم انتهى إلى قِرْبَةٍ مُعَلَّقةٍ فَخَنَثَهَا ثمَّ شرِبَ وهو قائِمٌ. وعَمْرُو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ قال: رأيتُ رَسُولَ اللهِ شَرِبَ قائمًا وقاعدًا، أخرجه التِّرْمِذِيُّ، وقال: حَسَنٌ.
          وعائِشَةُ: أنَّه ◙ شَرِبَ قائمًا وقاعدًا، أخرجه أبو عليٍّ الطُّوسِيُّ مِن حديثِ الزُّبَيْدِيِّ قال: حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ: أنَّ مسروقَ بن الأَجْدَعِ حدَّثَه عن عائِشَة، ثُمَّ قالَ: حديثٌ غريبٌ. وأمُّ سُلَيمٍ أخرجه ابن شَاهينٍ مِن حديثِ أبي عاصِمٍ، عن ابن جُرَيجٍ، عن عبد الكريم _يعني الجَزَرِيَّ_ عن البراءِ ابن بنت أنسٍ، عن أنسٍ: أنَّ أمَّ سُليمَّ حدَّثتهم: أن رَسُولَ اللهِ صلعم دخَلَ عليهم فأُتي بِقِرْبَةٍ فَشَرِب قائمًا، وعنده أيضًا: أنَّه ◙ مرَّ بِبُرْمَةٍ تفورُ بلحمٍ فأخذَ منها قِطعةً، فلم يزل يَلُوكها حتَّى دخل في الصَّفِّ. وأمُّ المُنذِرِ قالت: دخَلَ عليَّ رَسُولُ اللهِ صلعم ولي دَوالٍ مُعَلَّقةٌ، فقامَ فأكل منها، أخرجه أبو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ، وأخرجه ابنُ أبي عاصِمٍ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ: أنَّه ◙ كان يُمرُّ بالقِدْر فيتناول منها العِرقَ فيُصيبُ منه وهو يريدُ الصَّلاة. ولأبي مُحَمَّدِ بن أبي حاتِمٍ الرَّازِيِّ بإسنادٍ جَيِّدٍ مِن حديثِ عبد الله بن السَّائبِ بن خَبَّابٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: رأيتُ رَسُولَ اللهِ صلعم قام إلى فخَّارةٍ فيها ماءٌ فَشَرِب قائمًا.
          وفيه آثارٌ عن الصَّحابة وغيرِهم أيضًا:
          ففي «الموطَّأ»: أنَّ أميرَ المؤمنين عُمَرَ ☺ وعُثْمَانَ بن عفَّان وعليَّ بن أبي طالبٍ ♥ كانوا يشربون قيامًا، وكان سعدُ بن أبي وَقَّاصٍ وعائِشَةُ ☻ لا يريان بذلك بأسًا، وعن أبي جعفرٍ القارِي قال: رأيتُ عبدَ الله بن عُمرَ يشرب سَوِيقًا قائمًا، وعن عامرِ بن عبد الله بن الزُّبَيْر: أنَّ أباه شَرِب وهو قائِمٌ.
          وفي «المصنَّفِ» لوكيعِ بن الجرَّاحِ: عن عبَّادِ بن منصورٍ قال: رأيتُ سالِمَ بن عبد الله شَرِبَ وهو قائِمٌ، وحدَّثنا ابنُ عَجْلَانَ قال: سألتُ إبراهيمَ عن الشُّرْب قائمًا؟ فقال: لا بأسَ به، إن شئت قائمًا، وإن شئت قاعدًا.
          وفي «مصنَّف بن أبي شَيْبَة»: حدَّثنا ابن مَهْدِيٍّ، عن سُفْيَان، عن واقدٍ، عن زَاذَانَ أنَّه قال: لا بأسَ بالشُّرْب قائمًا، وحدَّثنا يحيى بن سَعِيدٍ، حدَّثنا أبو سَعِيدٍ الهَمْدَانيُّ قال: رأيتُ الشَّعْبِيَّ يشربُ قائمًا وقاعدًا، وحدَّثنا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةَ، عن عبد الملكِ بن مَيْسَرَة قال: سألتُ طَاوُسًا وسعيدَ بن جُبَيْرٍ عن الشُّرب قائمًا فلم يَرَيا به بأسًا. وحَدَّثَنَا يحيى بن يَمانٍ، عن عبد الملك بن أبي سُلَيْمَان قال: قال لي سعيدُ بن جُبَيْرٍ: اشرب قائمًا، وحدَّثنا أبو الأحوَصِ، عن عبد الله بن شَرِيكٍ، عن بِشر بن غالبٍ قال: رأيتُ الحسينَ بن عليٍّ شرب قائمًا. وحدَّثنا حفْصُ بن غياثٍ، عن عبد الله بن عُمرَ، عن نافِعٍ، عن ابن عُمرَ ☻ قال: كنَّا نشرب ونحن قيامٌ، ونأكل ونحن نمشي على عهد رَسُول اللهِ صلعم. وسلف عن التِّرْمِذِيِّ.
          وقد رُوي خِلافُ ذلك، وكأنَّ البُخَارِيَّ لمحَه بالترجمة ممَّا ليس على شرطه، ففي أفراد مُسْلمٍ مِن حديثِ همَّامٍ، عن قَتَادَةَ، / عن أنسٍ ☺: أنَّه ◙ زجَرَ عن الشُّرب قائمًا. وله أيضًا عن همَّامٍ، حدَّثنا قَتَادَة، عن أبي عيسى الأُسْوَاريِّ، عن أبي سَعِيدٍ مثله، وله أيضًا مِن حديثِ أبي غَطَفَانَ المُرِّيِّ سمع أبا هريرة ☺ يقول: قال رَسُول اللهِ صلعم: ((لا يَشربنَّ أحدُكم قائمًا، مَن نَسِيَ فليستَقِئْ))، وللأثرم عن مَعْمَرٍ عن الأَعْمَش عن أبي صَالِحٍ عنه مرفوعًا: ((لو يعلَمُ الذي يشربُ قائمًا لاستقاءَه))، وفي حديث أبي زِيَادٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رجلًا شَرِبَ قائمًا، فقال له ◙: ((أتحِبُّ أن يشربَ معك الِهرُّ؟)) قال: لا، قال: ((قد شرب معك مَن هو شرٌّ منه؛ الشَّيطانُ)).
          وللتِّرْمِذيِّ مِن حديثِ سَعِيدٍ، عن قَتَادَةَ، عن أبي مُسْلمٍ الجَذْمِيِّ، عن الجَارُودِ بْنِ الْمُعَلَّى: أنَّه ◙ نهى عن الشُّرْب قائمًا. ثُمَّ قالَ: حسَنٌ غريبٌ، وهكذا روى غير واحدٍ هذا الحديث، ورُوي عن قَتَادَة، عن يزيدَ بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبي مُسلمٍ، عن الجَارُودِ: أنَّه ◙ قال: ((ضالَّةُ المؤمِنِ حَرْقُ النَّار)).
          وقد سلف عن أمِّ قيسٍ خِلافُه، وذكر أنَّه روي ذلك أيضًا عن رَسُول اللهِ صلعم مِن رواية شَرِيكٍ، عن حُمَيدٍ عنه، وهو مَرْويٌّ في «مسند البزَّار»: أنَّه شَرِبَ لبنًا، فقال: فقد يُدَّعى النَّسخ لكن يحتاج إلى معرفة التاريخِ.
          قال الأثرمُ في «ناسخه»: حديث أنسٍ في الكراهة جيِّد الإسناد، إلَّا أنَّه قد جاء عنه خِلافه وأنَّه ◙ شربَ وهو قائِمٌ، فلمَّا جاءت عنه أحاديث الرُّخْصة فقد يمكن أن يكون هذا أصحُّ الخبرين، وإن كان حديث الكراهة أثبتُ، أَلَا ترى أنَّه ربَّما روى الثبثُ حديثًا فيخالفهُ فيه مَن هو دونه فتكون رواية مَن هو دونه أصوب، وليس ذلك في كلِّ شيءٍ، وسيفتح لك منه بابًا: قد كان سالِمٍ يُقدَّم على نافِعٍ، وقد قُدِّم نافعٌ في أحاديث على سالِمٍ، فقيل: نافِعٌ هو فيها أصوب، وكان سُفْيَان بن سَعِيدٍ يُقدَّم على شَرِيكٍ في صِحَّة الرواية تقديمًا شديدًا، ثمَّ قُضي لشَرِيكٍ على سُفْيَان في حديثينِ، ومثله نُمَيرٌ. وأمَّا حديث أبي عيسى الأُسْوَارِيِّ عن أبي سَعِيدٍ فليس هو بالمشهور بالعِلْم، ولا نعرف له عن أبي سَعِيدٍ غير هذا الحديث وآخر، وقال أحمدُ: لا نعلم روى عن أبي عيسى غير قَتَادَة، ومَن كان موصوفًا بهذا مِن غير الصَّحابة لا يَقبَلُ حديثَه جماعةٌ مِن العلماء، وأمَّا حديث أبي هُرَيْرَةَ فقد سلف في لفظٍ ما يُوجِب التوقُّفَ عن العمل به، لا سيَّما ورواية عُمَر بن حمزْةَ وهو ممَّن قالَ فيه أحمد: أحاديثه مناكيرُ، وضعَّفه جماعةٌ منهم ابن مَعِينٍ والنَّسَائيُّ.
          ولمَّا ذكر الأثرمُ حديثَ مَعْمَرٍ، عن الأَعْمَش المذكور قبلُ، قال: كان مَعْمَرٌ يضطربُ في حديث الأَعْمَش ويُخطئ فيه، وقد تفَّرد به هنا، وأيضًا أبو زِيَادٍ ليس بالمشهور في الحديث ولا أعرف له عن أبي هُرَيْرَةَ غيرَه، ثمَّ أبينُ مِن ذلك أنَّه سُئل أبو هُرَيْرَةَ عن الشرب قائمًا؟ فقال: لا بأس به، فكان هذا الخبر ساقطًا؛ إذ لا يجوز لأبي هُرَيْرَةَ ولا لغيره مِنَ المسلمين أن يَسمعَ مِن رَسُول اللهِ صلعم حديثًا ويفتي بخِلافه إلَّا لشيءٍ ظهرَ له، وقد ذكر الطَّحَاوِيُّ في «مُشكِله» ما يبيِّن العلَّةَ في كراهة الشُّرب قائمًا، وهو أنَّه شرب ولم يسمِّ، فقال له ◙ الحديثَ.
          وأمَّا قول المَازَرِيُّ عن بعض الشيوخ: الأظهر أنَّه موقوف على أبي هُرَيْرَةَ، فلا يساوي سماعَه لأنَّ الأحاديث لا تُردُّ بالاحتمالات، قال: ولا خِلاف بين أحدٍ مِن أهل العلم أنَّه ليس عليه أن يَسْتَقيءَ، وأمَّا حديثُ الجَارُودِ فقد ردَّه الطُّوسِيُّ بأنَّه لمَّا ذكر حديثَ ابن الشِّخِّير إثرَ حديث قَتَادَة عن أبي مُسلمٍ قال: هو أشبه.
          قال الأثرمُ: ونرى مع هذا أنَّه إن كانت الكراهة بأصلٍ ثابتٍ أنَّ الرُّخْصَة بعدها، لأنَّا وجدنا العلماءَ مِن الصَّحابة على الرُّخْصَة، ولئن سلَّمنا صِحَّةَ الكراهة فيكون محمولًا على الإرشاد والتأديب لا على التَّحريم، كما ذكره الطَّبَرِيُّ في «تهذيبه» قال: ولم يَرِدْ أحدُ الخبرين ناسخًا للآخر، ولا يجوز أن يكون منه ◙ تحريمُ شيءٍ بعد إطلاقه أو عكسُه ثُمَّ لا يُعلِم أُمَّتَه أيُّ ذلك الواجب عليهم العمل به.
          وقد رُوي في سبب النَّهي عن ذلك حديثٌ فيه نظرٌ، رواه بقيَّة عن إسحاقَ بن مالكٍ، عن مُحَمَّد بن إبراهيمَ، عن الحارثِ بن فُضَيْلٍ، عن جعفرِ بن عبد الله، عن ابن عُمرَ مرفوعًا: ((مَن أصابَهُ داءٌ في إحدى ثلاثٍ لم يُشفَ: أن يشربَ قائمًا، وأن يمشي في نعلٍ واحدةٍ، أو يُشبِّك بين أصابعهِ))، وهذا الحديثُ وإن كان ممَّا لا يُعتمد عليه لضعفِه، فإنَّ في الإجماع حُجَّة على أنَّ النَّهي عن الشرب قائمًا على غير وجه التَّحريم، ومنهم مَن أوَّله.
          وذكر أبو الفَرَج الثَّقَفِيُّ في «نصرة الصِّحاح» أنَّه أراد بقوله (قَائِمًا): ماشيًا، قال تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] أي مواظبًا بالمشي عليه، والعربُ تقول: قُم في حاجتنا، أي امشِ فيها، ويقال: قام في هذا الأمر وقَعَد، وتكون علَّته أنَّه لا يتمكَّنُ مِن الشرب فندب الشارع إلى الطَّمأنينة للتمكُّن منه. وذهب بعضُهم _فيما حكاه القُرْطُبِيُّ_ إلى أنَّ النَّهيَ عن ذلك مخافة شَرْقةٍ أو يحصل له وجعٌ في كبدِه أو حَلْقِه، وشربُه قائمًا لأمْنِه مِن ذلك.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: إنَّما رسم البُخَارِيُّ هذا الباب لأنَّه قد رُوي عن رَسُول اللهِ صلعم آثارٌ فيها كراهةُ الشرب قائمًا، فلم يصحَّ عندَه وصحَّت عنده أحاديث الإباحة في ذلك، وعَمِل بها الخلفاءُ بعد رَسُول اللهِ صلعم وقال بها أئمَّة الفتوى، وروى الطَّبَرِيُّ عن عُمَرَ ☺ أنَّه شربَ قائمًا، وعن عليٍّ وسعدٍ وابن عُمرَ وعائِشَة وأبي هُرَيرةَ مثله، وعن إبراهيمَ وطَاوُسٍ وسعيدِ بن جُبَيْرٍ مثله أيضًا، ورُوي عن أنسٍ كراهتُه وعن أبي هُرَيْرَةَ مثله، وبه قال الحَسَنُ البَصْريُّ، والدليل على جواز ذلك أنَّ الأكلَ مباحٌ قائمًا وعلى كلِّ حالٍ، فكذلك الشُّرب، وقال ابن التِّين: فِعلُه ذلك لبيان الجواز، وكذا قال الخطَّابيُّ: إنَّه نهيُ تأديبٍ لأنَّه أحسنُ / وأرفق بالشارب، وقال القُرْطُبِيُّ: لم يَصِرْ أحدٌ مِن العلماء إلى أنَّ النَّهي للتحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظَّاهرية، والجمهورُ على الجواز، فمِنَ السَّلف أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وجمهورُ الفقهاء متمسِّكين بشربه ◙ قائمًا مِن زَمْزَمَ، وكلُّهم رأوا هذا الفعلَ منه متأخِّرًا عن أحاديث النَّهي، فإنَّه كان في حَجَّة الوَدَاع، وروايةُ ابنُ عبَّاسٍ وصحبته متأخِّرةٌ عن صُحبة أولئك، فهو ناسِخٌ، وتحقَّق ذلك فعل الخلفاء الأربعة، ويبعُد أن يخفى عليهم تلك الأحاديث، وقد قال أبو عُمَرَ، عن مالكٍ: إذا أعيانا الأمرُ ولا نعرف النَّاسخَ فيه مِن المنسوخ نظرنا إلى فعل الشيخَين، فعلمنا أنَّه الآخِرُ مِن الأمرين، فكيف بالصَّحابة الباقين، وقد قال ◙: ((اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ مِن بَعدِي، أبي بَكْرٍ وعُمَرَ))، وهذا وإن لم يصلُح للنَّسخ فيصلُحُ لترجيح أحد الحديثين على الآخر، ويكون النَّهي هنا يقتضي التنزيه، ومَن جَسَرَ _وهو ابن حَزْمٍ_ وزعم أنَّ حديثَ النَّهي نسخَ الآخرَ بقوله: لا يحلُّ الشرب قائمًا، فأمَّا الأكلُ مباحٌ، ثُمَّ قالَ: فإن قيل: قد صحَّ عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ أنَّه ◙ شَرِب قائمًا، قلنا: نعم، والأصل إباحةُ الشُّرب على كلِّ حالٍ مِن قيامٍ وقعودٍ واضجاعٍ، فلمَّا صحَّ النَّهي عنه قائمًا كان ذلك _بلا شكٍّ_ ناسخًا للإباحة، ومُحَالٌ مقطوعٌ به أن يعود المنسوخ ناسخًا ثم لا يُبيِّنه، وأقلُّ ما في هذا على أصول المخالفين أنَّ لا يُترَك اليقين للمظنون، وَهُم على يقينٍ مِن نسخ الإباحة السابقة، ولم يأتِ في الأكل نهْيٌ إلَّا عن أنسٍ مِن قوله. فيتوقَّف في قوله كما قدَّمنا للجهل بالتاريخ، ولأنَّه لا يُصار إلى النَّسخ إلَّا مع إمكان عدم الجمع بين الأحاديث، وهنا أمكن كما سلف، على أنَّ جماعة مِن العلماء أثبتوا النَّسخَ وليس أحدُ القولين أَوْلى مِن الآخر، وقد أسلفنا قولَ الأثرم وغيره، وقال ابنُ شَاهينٍ: هذا حديثٌ مُشكِلٌ نسخُه؛ لأنَّه قد صحَّ عن الشارع النَّهيُ عنه وصحَّ عنه فِعلُه، وأنَّ أصحابَه كانوا يفعلون ذلك، وإباحةُ ذلك قائمًا أقربُ إلى أن يكون نسخه النَّهي؛ لأنَّه لو كان النَّهيُ ثابتًا _وهو آخِر الأمْرَين_ لَمَا كان الصَّحابة يفعلون ذلك، ولو كان شربُه قائمًا دون غيره لَمَا جاز لأصحابه أن يشربوا قيامًا لأنَّهم كانوا يفعلون هذا على عهده ◙، فهذا أشبه أن يكون ناسخًا للنَّهي.
          وفي قول ابن حَزْمٍ: الشربُ قائمًا مكروهٌ لا يحلُّ. عجبتُ ! يردُّه فعلُه ◙ وبعدَه الصَّحابة والتابعون ولا تاريخَ، وكذا الأربعة مِن المذاهب ومَن تَبِعهم؛ ولم يبلغنا عن أحدٍ منهم فيما نعلم كراهتَه إلَّا ما حُكي عن أبي هُرَيْرَةَ وأنس ☻، وقد أسلفنا عنهما خِلافُ ذلك، وعن الحَسَنِ في «مصنَّف ابن أبي شَيْبَة» وحدَه كراهته، ولعلَّه إنَّما كرهَه مِن جهة الطبِّ مخافةَ ضررٍ وهو أليقُ بعلمه ذلك.
          وقد سلف عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ ذلك، وهذا يوضِّح لك كراهةَ الحَسَن، على أنَّا قَدَّمنا عن إبراهيمَ عدمها، وهذا مِن شُذُوذ ابن حَزْمٍ من بين الأئمة ولا نعتدُّ به، وقد أفردتُ المسألة بالتأليف، وأنشدنا بعض شيوخنا:
اشْرِبْ قِيَامًا تَابِعًا سُنَنَ الهُدَى                     وَدَعِ ابنَ حَزْمٍ والَّذِي يَقولُهْ
فالْجَزْمُ في هَذَا الْمَقَامِ خِلَافُهُ                     وهو الصَّواب أَتَى بِهِ مَنْقُولُهْ
          وأمَّا مَن زعم أنَّ شُربَه مِن زَمْزَمَ كان لعُذرِ الزِّحام والوَحل فغير جيِّدٍ، وقد قاله هو في مسألة: إنْ تزوَّجْتُ فلانةً فهي طالقٌ، قالوا: جوَّزناه لأنَّه ضيَّق على نفسهِ، فأجاب: أين وجدتم أنَّ الضِيقَ يبيح الحرام؟! وقد فعل ذلك بالمدينة، وقال النَّوويُّ: أمَّا قول عِيَاضٍ: لا خِلاف بين أهل العِلْم أنَّ مَن شَرِبَ ناسيًا قائمًا ليس عليه أن يتقيَّأ، وأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يُلتفت إلى إشارته، وكونُ أهل العِلْم لم يُوجبوا الاستقاءَ لا يمنعوا كونها مستحبَّةً، ثمَّ إنَّه يُسَتحبُّ لمَن شَرِبَ قائمًا ناسيًا أو متعمدًا أن يَسْتَقِيء، وذِكرُ النَّاسي في الحديث ليس المراد به أنَّ العامدَ يُخالفه بل هو للتنبيه على غيره مِن بابٍ أَوْلَى؛ لأنَّه إذا أمر به النَّاسي وهو غير مخاطَبٍ فالعامد المكلَّف المخاطَب أولى.
          فصْلٌ: وقع في «صحيح مُسلمٍ»: قال قَتَادَة: فقلنا لأنسٍ: الأكلُ؟ قال: أَشَرُّ أَو أَخْبَثُ _بالألف_ والمعروف عند علماء العربيَّة شرٌّ بدونها وكذا خيرٌّ، قال تعالى: {أَصْحَابُ الجَنَّة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [القرقان:24]، وقال: {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم:75] ولكن هذه اللَّفظة وقعت هنا على الشكِّ فإنَّه قال: أشرُّ أو أخبثُ، فشكَّ قَتَادَة في أنَّ أنسًا قال: أشرُّ أو أخبثُ، فلا يثبُت عن أنسٍ أشرَّ بهذه الرواية إلَّا أن تثبت هذه اللَّفظة مِن غير شكٍّ هو عربيٌّ صحيحٌ، وذلك لغةٌ.
          قلتُ: وقَتَادَةُ معروف النَّسب في بني شَيْبانَ، ولهذا نظيرٌ، فمَا لا يكون معروفًا عند النحويِّين وجاريًا على قواعدهم وقد صحَّت به الأحاديث فلا يُردُّ إذا ثبتَ، بل يُعلَّل بقلَّة الاستعمال ونحو ذلك إذ لم يحيطوا بكلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما يفعله غيره عن العرب.
          ووقع في كتاب التِّرمذيِّ: أشدُّ، بالدال.
          فصْلٌ: ترجم البُخَارِيُّ على حديث أمِّ الفضلِ [خ¦5636]: بابُ الشُّرْب في الأقداح أيضًا، وإذا جاز الشُّرْب قائمًا بالأرض فالشُّرْب على الدَّابَّة أحرى بالجواز، لأنَّ الراكِبِ أشبه بالجالس.
          وقولُه فيه: (زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ) يريد به ما خرَّجه في الحجِّ [خ¦1661]: عن القَعْنَبيِّ، عن مالكٍ، عن أبي النَّضْرِ به، وبهذه الرواية طابقَ الترجمة، ولو لم يعلم أنَّ طوافَه ◙ كان على بعيرٍ لكان الحديثُ مُستغنيًا عن التعليق ومناسبًا لباب: الشُّرْب مِن قيامٍ.
          وقال ابن العَرَبِيِّ: قوله: (شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى بَعِيرِهِ) لا حُجَّة / فيه لأنَّ المرءَ على بعيره قاعدٌ غير قائِمٍ.
          فصْلٌ: قوله: (عَلَى بَابِ الرَّحبَةِ) هو بإسكان الحاء، قال الجَوْهَرِيُّ: الرُّحْب بالضمِّ: السَّعَة، والرَّحب بالفتح: الواسع، نقول منه: وبلدٌ رَحْبٌ وأرْضٌ رَحْبَةٌ، ثُمَّ قالَ: والرَّحَبَة بالتحريك رَحَبَةُ المسجد وهي ساحته، والجمع: رَحَبٌ ورِحَابٌ ورَحَبَاتٌ، فعلى هذا يُقرأ ما في الأصل بالسكون كما قدَّمناه، لأنَّه أراد الأرض المتَّسِعة، أو يريد: أنَّها صارت رَحَبةً بالكوفة بمنزلة الرَّحَبَة للمسجد فتُقرأ بالتحريك، قال ابن التِّين: وهذا هو البيِّنُ لأنَّه تبيَّن في الحديث الثاني: أنَّه كان جالسًا في رَحَبَة الكوفة، ولا فرق بين رَحَبَة الكوفة ورَحَبَة المسجد.
          فصْلٌ: قوله: (ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ) أنكره الأَصْمعيُّ، وقال: إنَّه مولَّدٌ وإنَّما أنكرَه بخروجِه عن القياس، وإلَّا فهو كثيرٌ في كلامهم:
نَهَارُ المَرْءِ أَمْثَلُ حين تُقضَى                     حَوائِجُهُ مِنَ اللَّيلِ الطَّويلِ
          وقال ابن فارسٍ والجَوْهَرِيُّ: الجمعُ حَاجٌ وحَاجَاتٌ وحَوَائِجٌ، قال الجَوْهَرِيُّ: على غير قياسٍ كأنَّهم جمعوا: حَائِجَة، وذكر قولَ الأَصْمعيِّ المتقدِّم، وزاد: حَوْجٌ، وقال الهَرَوِيُّ: قيل الأصل فيه: حَائِجَة، وقال ابنُ وَلَّاد: الحَوْجَاءُ الحَاجَةُ، وجمعُها: حَواجي، بالتشديد والتخفيف، قال: ويُروَى أنَّ حَوَائِجَ مقلوبةٌ مِن حواجي، كقولهم: شَوَائع وَشَوَاعي.