التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إقبال المحيض وإدباره

          ░19▒ بَابُ إِقْبَالِ المَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ
          قال البخاريُّ: (وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الكُرْسُفُ، فَتَقُولُ: «لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ» تُرِيْدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ).
          هذا الأثر ذكره مالكٌ في «الموطَّأ»، فقال: عن عَلْقَمَةَ بنِ أبي عَلْقَمَةَ عن أمِّه مولاة عائشةَ أنَّها قالت: ((كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بالدُّرَجَةِ فِيْهَا الكُرْسُفُ فِيْهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الحِيْضِ يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فتقولُ لهنَّ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ. تُرِيْدُ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ)).
          قال أبو مُحَمَّدٍ بنِ حزمٍ: خُولِفَت أمُّ عَلْقَمَةَ بما هو أقوى مِنْ روايتها، قُلْتُ: وأمُّ عَلْقَمَةَ اسمها مُرْجَانَةُ، كذا سمَّاها ابنُ حِبَّانَ في «ثقاتِه»، وقال العِجْلِيُّ: مدنيَّةٌ تابعيَّةٌ ثقةٌ.
          و(الدُّرْجَةِ) بضمِّ الدَّال المهملة وسكون الرَّاء، وقيل: بكسر الدَّال وفتح الرَّاء، وعند البَاجِيِّ بفتحهما، وهي بعيدةٌ عن الصَّواب كما قاله صاحب «المطالع».
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: رواية أصحاب الحديث الثَّاني يَعنُونَ بذلك جمع (دِرَجٍ)، وهو الَّذي يجعل فيه النِّساء الطِّيب، وأهل اللُّغة ينكرون ذلك ويقولون: إنَّما الَّذي كنَّ يبعثن به الخرق فيها القطن، كنَّ يمتحنَّ بها أمر طهرهنَّ، واحدتها دُرْجَةٌ بضمِّ الدَّال وسكون الرَّاء.
          و(الكُرْسُفُ) بضمِّ السِّين مع الكاف: القطن، ويُقال له: الكُرْفُس، على القلب، واختير القطن لبياضه، ولأنَّه يُنَشِّفُ الرُّطوبة، فيظهر فيه مِنْ آثار الدَّم ما لا يظهر مِنْ غيره.
          و(القَصَّةَ) _بفتح القاف وحكى القزَّاز كسرها والصَّاد المهملة_ الجِصُّ، ومعناه هنا أن تخرج القطنة أو الخرقة الَّتي تحتشي بها كأنَّها قَصَّةٌ لا تخالطها صُفْرَةٌ، وقيل: هو ماءٌ أبيض يخرج آخر الحيض مثل الخيط، وفي «محيط» الحنفيَّةِ: القَصَّةُ: الطِّين الَّذي يُغْسَلُ به الرَّأْسُ، وهو أبيض يضرب إلى الصُّفْرَةِ. وفسَّر مالكٌ القَصَّةَ بقوله: تُرِيْدُ بذلك الطُّهر كما وقع في البخاريِّ.
          وقال الخَطَّابِيُّ: تُرِيْدُ النَّقَاءَ التَّامَّ، وقال ابنُ وَهْبٍ في «تفسيرِه»: رأيت الأبيض _القطن_ كأنَّه هو، وقال ابنُ أبي سَلَمَةَ: إذا كان ذلك نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللَّون، وقال مالكٌ: سألتُ النِّسَاءَ عن القَصَّةِ البيضاء، فإذا ذلك أمرٌ معلومٌ عند النِّسَاءِ يرينه عند الطُّهر.
          وروى البَيْهَقِيُّ مِنْ حديث ابنِ إِسْحَاقَ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بَكْرٍ عن فاطمةَ بنتِ مُحَمَّدٍ _وكانت في حِجْرِ عَمْرَةَ_ قالت: ((أَرْسَلَتِ امرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَمْرَةَ كُرْسُفَ قُطْنٍ فيها _أَظُنُّهُ أَرَادَ الصُّفْرَةَ_ تَسْأَلُهَا: إِذَا لَمْ تَرَ المرأةُ مِنَ الحيضةِ إلَّا هذا طَهُرَتْ؟ قَالَ: فَقَالَتْ: لَا، حَتَّى تَرَى البَيَاضَ خَالِصًا)).
          قال البخاريُّ: وَبَلَغَ ابْنَةُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ: (أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ حَتَّى يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ، فَقَالَتْ: «مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ»).
          هذا رواه مالكٌ في «مُوَطَّئِه» عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بَكْرٍ عن عمَّته عن ابنةِ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّه بَلَغَهَا... الحديثَ.
          عمَّة ابنِ أبي بَكْرٍ اسمها عَمْرَةُ بنتُ حزمٍ، قال ابنُ الحَذَّاءِ: وإن كانت عمَّة جدِّه فهي عمَّةٌ له أيضًا، ويشبه أن تكون لها صحبةٌ؛ لأنَّ أخاها عَمْرَو بنَ حزمٍ له صحبةٌ، وقد رَوَتْ عَنِ النَّبيِّ صلعم حديثًا، ذكرها ابنُ عبدِ البَرِّ في «استيعابِه».
          وابنةُ زيدٍ هذه يشبه أن تكون أمَّ سَعْدٍ، ذكرها ابنُ عبدِ البَرِّ في الصَّحابيَّات أيضًا، وذكر الحافظ أبو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ شيخ شيوخنا أنَّ له مِنَ البنات أمَّ إِسْحَاقٍ، وحَسَنَةَ، وعَمْرَةَ، وأمَّ كلثومٍ، وأمَّ حَسَنٍ، وقُرَيْبَةَ، وأمَّ مُحَمَّدٍ.
          وروى البَيْهَقِيُّ أيضًا مِنْ حديث عَبَّادِ بنِ إِسْحَاقَ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بَكْرٍ عن عَمْرَةَ عن عائشةَ أنَّها كانت تنهى النِّساء أن ينظرن إلى أنفسهنَّ ليلًا في الحيض، وتقول: إنَّها قد تكون الصُّفرة والكُدْرة.
          وعن مالكٍ: لا يعجبني ذلك، ولم يكن للنَّاس مصابيح، وروى ابنُ القَاسِمِ عنه أنهنَّ كنَّ لا يقمن باللَّيل.