التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {مخلقة وغير مخلقة}

          ░17▒ بَابُ: ({مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}) [الحجّ:5]
          318- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ وَالأَجَلُ، فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ).
          هذا الحديث أخرجه في الاعتصام أيضًا، وأخرجه مسلمٌ في القدر.
          وعُبَيْدُ اللهِ هذا روى عن جَدِّه أَنَسٍ، وقيل: روى عن أبيه عن جَدِّه، وهو ثقةٌ صالحٌ.
          والنُّطفة: جمعها نُطَفٌ، وكلُّ خَفِيٍّ نطفةٌ، والعَلَقَة: الدَّم الجامد الغليظ، سُمِّيَت بذلك لرطوبتها وتعلُّقها بما تمرُّ به، والمُضغة: قطعة لحمٍ قَدْر ما يمضغه الماضغ.
          وفقهُ الحديث: أنَّ الله تعالى علم أحوال خلقه قبل خلقهم، ووقَّت أرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم، وأراد البخاريُّ بهذا التَّبويب معنى ما رُويَ عن عَلْقَمَةَ: إذا وقعتِ النُّطفة في الرَّحم قال الملكُ: مُخَلَّقَةً أو غير مُخَلَّقَةٍ؟ فإن قال: غير مُخَلَّقَةٍ مَجَّتِ الرَّحم دمًا، وإن قال: مُخَلَّقَةٌ، قال: أذكرٌ أم أنثى؟
          ويُحتمل أن يكون المراد ما فسَّره في الحديث: إذا أراد خلقه قال: مُخَلَّقَةٌ، وإن لم يُرِدْ قال: غير مُخَلَّقَةٍ.
          ويحتمل أن يكون أراد الآيةَ الكريمةَ: {مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحجّ:15]، والحديث طبقها، ويحتمل أن يكون المراد بالآية أنَّها تكون غير مُخَلَّقَةٍ في الحالة الثَّانية، ثمَّ تُخَلَّق بعد ذلك، والواو لا توجب ترتيبًا.
          وغرض البخاريِّ بهذا الباب _والله تعالى أعلم_ أنَّ الحامل لا تحيض، وهو قول أبي حنيفةَ والكوفيِّ والأوزاعيِّ وأحد قولي الشَّافعيِّ، لأنَّ اشتمال الرَّحم على الولد يمنع الخروج، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ في أظهر قوليه أنَّها تحيض، وحُكِيَ عن بعض المالكيَّةِ: إن كان في آخر الحمل فليس بحيضٍ.
          وذكر الدَّاوُدِيُّ أنَّ الاحتياط أن تصومَ وتصلِّيَ ثمَّ تقضي الصَّوم ولا يأتيها زوجها، وعن قَتَادَةَ: تَامَّةً أو غير تَامَّةٍ، وعن الشَّعْبِيِّ: النُّطفة والعَلَقة والمضغة إذا كُسِيَت في الخلق الرَّابع كانت مُخَلَّقَةً، وإذا قُذيتها قبل ذلك كانت غير مُخَلَّقَةٍ، وعن أبي العاليةِ: المُخَلَّقَة: الصُّورة، وغيرها السَّقط.
          وقام الإجماع على مصير الأَمَة أمِّ ولدٍ ممَّا أسقطته مِنْ ولدٍ تامِّ الخلق، ووقع الخلاف بينهم فيمَنْ لم يتمَّ خلقه مِنَ العلقة والمضغة، فقال مالكٌ والأوزاعيُّ وجماعةٌ: تكون أمَّ ولدٍ بالمضغة مُخَلَّقَةً وغيرها، وتنقضي بها العدَّة، وعن ابنِ القَاسِمِ: تكون أمَّ ولدٍ بالدَّم المجتمع، وعن أَشْهَبَ: لا تكون أمَّ ولدٍ به، وتكون بالمضغة والعلقة.
          وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وجماعةٌ: إن كان قد تبيَّن في المضغة شيءٌ مِنَ الخلق، أصبعٌ أو عينٌ أو غير ذلك فهي أمُّ ولدٍ، وعلى مثل هذا انقضاء العدَّة، ثمَّ اعلم أنَّه ثبت في «الصَّحيح» مِنْ حديث ابنِ مَسْعُودٍ: ((إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أربعينَ يومًا، ثمَّ يَكُونُ عَلَقةً مثلَ ذلكَ، ثمَّ يكونُ مُضغةً مثلَ ذلكَ، ثمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فيَنفُخُ فيهِ الرُّوْحَ، ويكتبُ رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيٌّ أو سعيدٌ)).
          وظاهره أنَّ إرسال الملك بعد الأربعين الرَّابعة، وفي روايةٍ: ((يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطفَةِ بَعْدَمَا تَستَقِرُّ في الرَّحِمِ بأربعينَ أو خمسةٍ وأربعينَ ليلةً، فيقولُ: ياربِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟))، وفي أخرى: ((إِذَا مَرَّ بالنُّطفَةِ ثنتانِ وأربعونَ ليلةً، بَعَثَ اللهُ إليها مَلَكًا، فصَوَّرَها وخَلَقَ سمعَها وبصرَها وجلدَها))، وفي رواية حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ: ((إنَّ النُّطفَةَ تَقَعُ في الرَّحِمِ أربعينَ ليلةً ثمَّ يَتَسَوَّرُ عليها المَلَكُ))، وفي أخرى: ((أنَّ مَلَكًا وُكِّلَ بالرَّحِمِ إذا أرادَ اللهُ أنْ يخلقُ شيئًا يأذنُ لهُ لبضعٍ وأربعينَ ليلةً)).
          وجمع العلماء بين ذلك أنَّ الملائكة لازمةٌ ومراعيةٌ لحال النُّطفة في أوقاتها؛ وأنَّه يقول: يا ربِّ هذه نطفةٌ، هذه علقةٌ، هذه مضغةٌ في أوقاتها، وكلُّ وقتٍ يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى وهو أعلم.
          ولكلام الملك وتصرّفه أوقاتٌ: أحدها: حين تكون نطفةً ثمَّ ينقلها علقةً، وهو أوَّل علم الملك أنَّه ولدٌ، إذ ليس كلُّ نطفةٍ تصير ولدًا وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه وأجله وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثمَّ للملك فيه تَصَرُّفٌ آخر، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وكونه ذكرًا أو أنثى، وذلك إنَّما يكون في الأربعين الثَّالثة وهي مدَّة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين وقبل نفخ الرُّوح، لأنَّ النَّفخ لا يكون إلَّا بعد تمام صورته.
          والرِّواية السَّالفة: ((إِذَا مَرَّ بالنُّطفَةِ ثنتانِ وأربعونَ ليلةً)) فليس على ظاهره كما قال عياضٌ وغيره، بل المراد بصَوَّرَهَا وخَلَقَ سَمعَهَا... إلى آخره: أنَّه يكتب ذلك ثمَّ يفعله في وقتٍ آخر؛ لأنَّ التَّصوير عقب الأربعين الأولى غير موجودٍ في العادة، وإنَّما يقع في الأربعين الثَّالثة، وهي مدَّة المضغة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ} الآية [المؤمنون:12]، ثمَّ يكون للملك فيه تصرُّفٌ آخر، وهو وقت نفخ الرُّوح، عقب الأربعين الثَّالثة حتَّى يكمل له أربعة أشهرٍ.
          واتَّفق العلماء على أنَّ نفخ الرُّوح لا يكون إلَّا بعد أربعة أشهرٍ، ووقع في رواية البخاريِّ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أربعينَ، ثمَّ يكونُ علقةً مثلَه، ثمَّ مضغةً مثلَه، ثمَّ يُبعَث إليهِ الملكُ، فيُؤذَن بأربعِ كلماتٍ، فيَكتبَ رزقَه وأجلَه وشقيٌّ أم سعيدٌ، ثمَّ يَنفُخُ فيهِ الرُّوْحَ))، فأتى فيه بـ (ثمَّ) الَّتي هي مقتضيةٌ للتَّراخي في الكَتْبِ إلى ما بعد الأربعين الثَّالثة، والأحاديث الباقية تقتضي الكَتْبَ عقب الأربعين الأولى.
          وجوابه: أنَّ قوله: ((ثمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيُؤْذَنُ فَيَكْتُبُ)) / معطوفٌ على قوله: ((يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ)) ومُتَعَلِّقٌ به لا بما قبله، وهو: ((ثمَّ يكونُ مضغةً مثلَه)).
          قوله: ((ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَهُ)) معترضًا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائزٌ موجودٌ في القرآن والحديث الصَّحيح وكلام العرب.
          قال القاضي وغيره: والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء أمره بها والتَّصَرُّف فيها بهذه الأفعال، وإلَّا فقد صُرِّح في الحديث بأنَّه مُوَكَّلٌ بالرَّحِمِ، وأنَّه يقول: (يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ).
          وقوله في حديث أنسٍ: (فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى) لا يخالف ما قدَّمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلامٍ وإخبارٌ عن حالةٍ أخرى، فأخبر أوَّلًا بحال الملك مع النُّطفة، ثمَّ أخبر أنَّ الله تعالى إذا أراد خلق النُّطفة علقةً كان كذا وكذا، ثمَّ المراد بجميع ما ذُكِرَ مِنَ الرِّزق والأجل والشَّقاء والسَّعادة والعمل والذُّكورة والأنوثة، أنَّه يُظْهِرُ ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته، وإلَّا فقضاء الله وعلمه وإرادته سابقٌ على ذلك.
          قال القاضي عياضٌ: ولم يُختَلَف أنَّ نفخ الرُّوح فيه يكون بعد مائةٍ وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهرٍ، ودخوله في الخامسة وهذا موجودٌ بالمشاهدة، وعليه يُعَوَّل فيما يحتاج إليه في الأحكام في الاستلحاق ووجوب النَّفقات، وذلك للثِّقة بحركة الجنين في الجوف.
          وقيل: إنَّ الحكمة في عدَّتها عن الوفاة بأربعة أشهرٍ وعشرٍ والدُّخول في الخامسة؛ تحقُّق براءة الرَّحم ببلوغ هذه المدَّة إذا لم يظهر حملٌ، ونفخ الملك في الصُّورة سببٌ لخلق الله عنده فيها الرُّوح والحياة؛ لأنَّ النَّفخ المعتاد فيه إنَّما هو إخراج ريحٍ مِنَ النَّافخ فيصل بالمنفوخ فيه، فإن قُدِّرَ حدوث شيءٍ عند ذلك النَّفخ، فذلك بإحداث الله تعالى لا بالنَّفخ، وغاية النَّفخ أن يكون معدًّا عادةً، لا موجبًا عقلًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة.
          وقوله: (فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) يعني أنَّ المَلَكَ يكتب مِنَ اللَّوح المحفوظ، كما رواه يحيى بنُ زكريَّا بنُ أبي زائدةَ مِنْ حديث ابنِ مَسْعُودٍ مرفوعًا: ((إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا استَقَرَّتْ في الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بكَفِّهِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أمْ أُنْثَى، شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ، مَا الأَثَرُ بأيِّ أَرْضٍ تموتُ؟ فيُقَالُ له: انطَلِقْ إلى أمِّ الكِتَابِ، فإِنَّكَ تَجِدُ قِصَّةَ هذه النُّطْفَةَ، فينطلقُ فيَجِدُ قِصَّتَهَا في أمِّ الكِتَابِ)).