التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض

          ░15▒ بَابُ امْتِشَاطِ المَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيْضِ
          316- حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُق الهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الحَصْبَةِ، فَأَعْمَرَنِي مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ).
          الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: اعترض الدَّاوُدِيُّ في «شرحه» فقال: ليس فيما أتى به حُجَّةٌ على ما ترجم له؛ لأنَّ عائشةَ إنَّما أُمِرَت أن تمتشط للإهلال بالحجِّ، وهي حينئذٍ حائضٌ، ليس عند غسلها منه، قُلْتُ: لكن إذا شرع في المسنون فالواجب أولى، ولعلَّ هذا هو الَّذي لمحه البخاريُّ.
          ثانيها: ظاهر حديث عائشةَ هذا أنَّها أحرمت بعمرةٍ أوَّلًا، وهو صريح حديثها الآتي في الباب بعده، لكنَّ قولها في الحديث السَّالف: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ)).
          وقد اختلفت الرِّوايات عن عائشةَ فيما أحرمت به اختلافًا كثيرًا كما ذكره القاضي عياضٌ، ففي رواية عُرْوَةَ عنها: ((فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ)) وفي روايةٍ أخرى: ((وَلَمْ أُهِلَّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ)) وفي أخرى: ((لَا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ)) وفي أخرى: ((لَا نَرَى إِلَّا الحَجَّ)) وفي رواية القَاسِمِ عنها: ((لَبَّيْنَا بالحَجِّ)) وله: ((مُهِلِّينَ بالحَجِّ)).
          واختلف العلماء في ذلك، فمنهم مَنْ رجَّح روايات الحجِّ وغلَّط رواية العُمْرَةِ، وإليه ذهب إِسْمَاعِيْلُ القاضي، ومنهم مَنْ جمع لثقة رواتها بأنَّها أحرمت أوَّلًا بالحجِّ ولم تَسُقِ الهدي، فلمَّا أمر الشَّارع مَنْ لم يَسُقِ الهدي بفسخ الحجِّ إلى العُمْرَةِ إن شاء؛ فسخت فيمَنْ فسخ وجعلته عُمْرَةً، وأهلَّت بها، ثمَّ إنَّها لم تحلَّ منها، حتَّى حاضت؛ / فتعذَّر عليها إتمامها والتَّحلُّل منها، فأمرها أن تُحرِمَ بالحجِّ، فأحرمت فصارت قارِنةً، ووقفت وهي حائضٌ، ثمَّ طهرت يوم النَّحر فأفاضت.
          وذكر ابن حزمٍ أنَّه ◙ خيَّرهم بسَرَفٍ بين فسخه إلى العمرةِ أو التَّمادي عليه، وأنَّه بمِكَّةَ أوجب عليهم التَّحلُّل فرضًا إلَّا مَنْ معه الهدي.
          وفي «الصَّحيح»: أنَّها حاضت بسَرِفٍ أو قريبٍ منها، فلمَّا قدمنا مَكَّةَ، قال رسول الله صلعم لأصحابه: ((اجعَلُوهَا عُمْرَةً)).
          ثالثها: قولها: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ لَيلَةُ عَرفَةَ...) إلى آخره، ظاهره أنَّه أمرها برفض عمرتها، وأن تخرج منها قبل إتمامها، وبه قال الكوفيُّون في المرأة تحيض قبل الطَّواف وتخشى فوت الحجِّ، أنَّها ترفض العمرة.
          وقال الجمهور: إنَّها تردف الحجَّ، وتكون قارنةً، وبه قال الشَّافعيُّ ومالكٌ وأبو حنيفةَ وأبو ثَوْرٍ، وحمله بعض المالكيَّة على أنَّه ◙ أمرها بالإرداف لا بنقض العمرة؛ لأنَّ الحجَّ والعمرة لا يتأتَّى الخروج منهما شرعًا إلَّا بإتمامهما، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلاتٍ:
          أحدها: أنَّها كانت مضطرَّةً إلى ذلك فرخَّص لها كما رخَّص لكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ في الحلق للأذى.
          ثانيها: أنَّه خاصٌّ بها.
          ثالثها: أنَّ المراد بالنَّقض والامتشاط تسريح الشَّعر لغسل الإهلال بالحجِّ، ولعلَّها كانت لبَّدت رأسها، ولا يتأتَّى إيصال الماء إلى البشرة مع التَّلبيد إلَّا بحلِّ الضَّفر والتَّسريح.
          وقد اختلف العلماء في نقض المرأة شعرها عند الاغتسال، فأمر به ابنُ عَمْرٍو والنَّخَعِيِّ، ووافقهما طَاوُسٌ في الحيض دون الجنابة، ولا يتبيَّن بينهما فرقٌ، ولم توجبه عليها فيهما عائشةُ وأمُّ سَلَمَةَ وابنُ عُمَرَ وجَابِرٌ، وبه قال مالكٌ والكوفيُّون والشَّافعيُّ وعامَّة الفقهاء، والعبرةُ بالوصولِ فإن لم يصلْ فتنقض.
          رابعها: قوله: (وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ) أي عن إتمامها، يؤيِّده قوله ◙ في الحديث الصَّحيح: ((يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتُكِ)).
          خامسها: (عَبْدَ الرَّحْمَنِ): هو أخوها، و(الحَصْبَةِ): بفتح الحاء وإسكان الصَّاد المهملتين، أي: ليلة نزول المحَصَّب، وهو الشِّعب الَّذي مخرجه إلى الأبطحِ بين مَكَّةَ ومِنًى، هو خَيفُ بني كنانةَ، وربَّما سُمِّي الأبطح والبطحاء لقربه منه، نزله الشَّارع بعد النَّفر مِنْ مِنًى؛ لأنَّه أسمحُ لخروجه، وبعث عائشة مع أخيها عبد الرَّحمن إلى التَّنعيم لتعتمر وتكمل أفعال عمرتها وتوافيه به، وطاف هو للوداع ووافاها في الطَّواف.
          سادسها: قولها: (مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ) كذا هو في روايتنا، ووقع عند الشَّيخ أبي الحَسَنِ كما نقله ابنُ التِّينِ: شَكَيْتُ، قال: وإنَّما وجه الكلام شكوت، قُلْتُ: والياء لغةٌ، قال: والَّذي رُوِّيْنَاه سَكَنْتُ مِنَ السُّكون، أي: سكنت عنها، وتركت التَّمادي عليها، قال: ورُوِيَ أنَّها شَكَتْ بسَرَفٍ ورُوِيَ بعَرَفَةٍ ورُوِيَ بمَكَّةَ، قال: والمعنى أنَّها أعادت الكلام وكرَّرته في كلِّ موضعٍ.