التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ترك الحائض الصوم

          ░6▒ بَابُ تَرْكِ الحَائِضِ الصَّوْمَ
          304- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ _هُوَ ابنُ أَسْلَمَ_ عَنْ عِيَاضِ بنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا).
          الكَلَامُ عليهِ مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديثُ أخرجَه البخاريُّ أيضًا في العيدينِ [خ¦974]، والزَّكَاةِ [خ¦1462]، والصَّومِ مُقَطَّعًا [خ¦1951]، وأخرجَه مُسْلِمٌ في الإيمانِ، ورواه الشَّافعيُّ عن إبراهيمَ بنِ مُحَمَّدٍ عن مُحَمَّدِ بنِ عَجْلَانَ عن عِيَاضٍ.
          ثانيها: عِيَاضٌ هذا عامريٌّ تابعيٌّ ثقةٌ، ماتَ بمَكَّةَ، ومُحَمَّدُ بنُ جعفرٍ مدنيٌّ ثقةٌ.
          ثالثها: فيه الخُرُوجُ إلى المُصَلَّى، وعليهِ عَمَلُ النَّاسِ في معظمِ الأمصارِ.
          وأمَّا أهلُ مَكَّةَ فلا يُصَلُّونَها إلَّا في المسجدِ مِنَ الزَّمَنِ الأوَّلِ، وألحقَ جماعةٌ مِنْ أصحابِنا مسجدَ الأقصى به، وأمَّا غيرُهم فالأَصَحُّ عندَنا أنَّ المسجدَ أفضلُ إلَّا أنْ يضيقَ على النَّاسِ، وخُرُوجُ الشَّارِعِ للمُصَلَّى لضيقِ مسجدِه.
          رابعها: المعشرُ: الجماعةُ أمرُهم واحدٌ، لا واحدَ له مِنْ لفظِه، وفي «التَّهذِيبِ» عن أحمدَ بنِ يحيى: أنَّه للرِّجَالِ دونَ النِّسَاءِ، ثمَّ قالَ: وعن اللَّيثِ: المعشرُ: كلُّ جماعةٍ أمرُهم واحدٌ، قُلْتُ: وهو المناسبُ للحديثِ، ونَقَلَه النَّوَوِيُّ عن أهلِ اللُّغَةِ، والجمعُ: معاشرُ.
          خامسها: فيه تخصيصُ النِّسَاءِ بالموعظةِ والتَّذكِيرِ في مجلسٍ غيرِ مجلسِ الرِّجَالِ إذا لم يَتَرَتَّبْ عليهِ مفسدةٌ، وهو حقٌّ على الإمامِ أنْ يفعلَه كما قالَه عَطَاءٌ، وهو السُّنَّةُ، وإنْ أنكرَه عليهِ القاضي.
          سادسها: فيه أيضًا حُضُورُ النِّسَاءِ في صلاةِ العيدِ، وكَانَ هذا في زمنِه ◙، سواءٌ المُخَبَّأَةُ وغيرُها، وأمَّا اليومُ فلا تخرجُ الشَّابَّةُ ذاتُ الهيئةِ، ولهذا قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: ((لَو رَأَى رَسُولُ اللهِ صلعم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ المَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيْلَ)).
          واختَلَفَ العلماءُ مِنَ السَّلَفِ في خروجهنَّ للعيدِ، فرأى جماعةٌ ذلك حقًّا عليهنَّ، منهم: أبو بَكْرٍ وعليٌّ وابنُ عُمَرَ وغيرُهم.
          ومنهم مَنْ منعهنَّ ذلكَ، منهم: عُرْوَةُ والقَاسِمُ ويحيى بنُ سَعِيْدٍ الأنصاريُّ ومالكٌ وأبو يُوسُفَ، وأجازَه أبو حنيفةَ مَرَّةً، ومنعه أُخرَى، ومنعَ بعضُهم في الشَّابَّةِ دونَ غيرِها، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي يُوسُفَ، قالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ الأمرُ بخروجهنَّ أوَّلُ الإسلامِ لتكثيرِ المسلمينَ في أعينِ العَدُوِّ.
          سابعها: فيه الأمرُ بالصَّدَقَةِ لأهلِ المعاصي والمخالفاتِ، وإنَّها مِنْ دوافعِ عَذَابِ جَهَنَّمَ.
          ثامنها: فيه إشارةٌ إلى الإغلاظِ في النُّصْحِ بالعِلَّةِ الَّتي تبعثُ على إزالةِ العيبِ أو الذَّنبِ الَّذي يَتَّصِفُ بهما الإنسانُ، والعنايةُ بذكرِ ما تشتدُّ الحاجةُ إليهِ للمخاطبينَ، وبذلُ النَّصِيحَةِ لمَنْ يحتاجُ إليها، والسَّعي إليه فيها، ولا يخاطبُ بها واحدًا بعينِه، فإنَّ في الشُّمُولِ تسليةً وتسهيلًا.
          تاسعها: جَوَازُ الشَّفَاعَةِ للمساكينِ وأنْ يَسْأَلَ لهم، وهو حُجَّةٌ على مَنْ كَرِهَ السُّؤَالَ لغيرِه.
          عاشرها: فيه أنَّ اللَّعنَ مِنَ المعاصي، فإنْ دَاوَمَ عليه صَارَ كبيرةً، وفي روايةٍ أُخرَى في«الصَّحِيحِ»: ((تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ)).
          الحادي عشر: (العَشِيْرَ) هنا: الزَّوجُ، وقيلَ: كلُّ مُخَالِطٍ، ومَعنَى الكفرِ هنا جَحْدُ الإحسانِ، فإنَّه قَوَّامٌ عليها فتجحدُه؛ لضعفِ عقلِها وقِلَّةِ معرفتِها، ففيه: أنَّ الكفرَ يُطلَقُ على كفرِ النِّعمَةِ، وقد سَلَفَ في الإيمانِ [خ¦29].
          الثَّاني عشر: (أَكْثَرَ) هو بنصبِ الرَّاءِ، على أنَّ (أُرِيْتُ) يَتَعَدَّى إلى مفعولينِ، أو على الحالِ إذا قُلْنَا أنَّ أَفْعَلَ لا يَتَعَرَّفُ بالإضافةِ، كما صارَ إليه الفَارِسِيُّ وغيرُه، وقيلَ: إنَّه بَدَلٌ مِنَ الكافِ في (أُرِيتُكُنَّ)، قيلَ: ولَعَلَّهُنَّ أكثرُ قبلَ الشَّفَاعَةِ، فإنَّ لكلِّ رَجُلٍ زوجتانِ مِنَ الآدَمِيِّينَ.
          الثَّالث عشر: اللُّبُ العقلُ، والحازمُ: المحترزُ في الأُمُورِ المستظهرُ فيها.
          الرَّابع عشر: نَبَّهَ ╕ بقولِه: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟) على ما نَبَّهَ عليهِ سبحانَه وتعالى في كتابِه بقولِه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] أي: إِنَّهُنَّ قليلاتُ الضَّبطِ، وإنْ كَانَ بعضُ أفرادِهنَّ يخرجنَ عنْ ذلكَ، فإنَّه نادرٌ قليلٌ كما صَحَّ عن رَسُولِ اللهِ صلعم / أنَّه قَالَ: ((كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيْرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بنتُ عِمْرَانَ وآسِيَةُ بنتُ مُزَاحِمٍ))، وفي روايةٍ أُخرَى: ((أَرْبَعٌ)).
          الخامس عشر: العقلُ أصلُه المنعُ، وهو صفةٌ يُمَيَّزُ بها بينَ الحسنِ والقبيحِ، ومحلُّه عندَ الأكثرينَ في القلبِ، وقيلَ: في الرَّأسِ، وقيلَ: مشتركٌ، وأغربَ بعضُهم فقالَ: نَقُصَ عقلِها أي في الدِّيَةِ، فإنَّها على النِّصفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ حَكَاهُ ابنُ التِّينِ، وظاهرُ الحديثِ يأباهُ.
          السَّادس عشر: وصف نقصان دينهنَّ لتركهنَّ الصَّومَ والصَّلَاةَ، ووجهه ظاهرٌ، فإنَّ مَنْ كَثُرَتْ عبادتُه زادَ إيمانُه ودينُه، لكنَّها مأمورةٌ بالتَّركِ فهي معذورةٌ إذن، ولا يلزمُ مِنْ هذا ثوابُها، فإنَّ نِيَّتَها التَّركُ مع عدمِ الأَهلِيَّةِ، بخلافِ المسافرِ والمريضِ، فإنَّ نيَّتهما الفعلُ لولا العذر، وليسَ نقصان ذلكَ في حَقِّهِنَّ ذَمًّا لهنَّ، وإنَّما قالَ ذلكَ على معنى التَّعَجُّبِ، بأنَّهنَّ على هذه الحالةِ، وهنَّ يفعلنَ بالحازمِ ما ذكرَه، كما نَبَّهَ عليه القُرْطُبِيُّ.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: أجمعَ العلماءُ على إسقاطِ فرضِ الصَّلاةِ عَنِ الحَائِضِ، وعلى عدمِ وجوبِ القضاءِ عليها إلَّا مَنْ شَذَّ، وكذا النُّفَسَاء بخلافِ الصَّومِ، فإنَّ عليها قضاءَه، ولا يجوزُ صومُها في حالِ حيضِها، وهذا ما ترجمَ عليه البُخَارِيُّ.
          السَّابع عشر: فيه: تركُ العيبِ على الرَّجُلِ إنْ تَغَلَّبَ مَحَبَّةُ أهلِه عَلَيْهِ لأنَّه ◙ عَذَرَه، فإذا كنَّ يغلبنَ الحازمَ فغيرَه أولى.