التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غسل المحيض

          ░14▒ بَابُ غَسْلِ المَحِيضِ
          315- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلعم: (كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنَ المَحِيضِ؟ قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِي ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّهُ ◙ اسْتَحْيَا، وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: تَوَضَّئِي بِهَا، فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا، فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صلعم).
          وأخرجَه في كتابِ الاعتصامِ عن يحيى أيضًا [خ¦7357]، ومِنْ تراجمِه عليه باب: الأحكامِ الَّتي تُعرَفُ بالدَّلَائِلِ، وأخرجَه مُسْلِمٌ أيضًا.
          وتابع منصورًا إبراهيمُ بنُ مهاجرٍ في مسلمٍ، وتابع ابنَ عُيَيْنَةَ وُهَيْبٌ _كما سلف_ وفُضَيْلُ بنُ سَلْمَانَ، وتابع يحيى جماعاتٌ منهم الحُمَيْدِيُّ، ويحيى هذا هو ابنُ مُوسَى البَلْخِيُّ السِّخْتِيَانِيُّ الثِّقة، يُقال له: خَت، وبخطِّ بعض الحفَّاظ المتأخِّرين أنَّه لقب مُوسَى، وبه صرَّح الجَيَّانِيُّ، مات بعد الأربعين ومائتين أو قبلها، قال الجَيَّانِيُّ: كذا نسب ابنُ السَّكَنِ يحيى هذا، فقال: ابنُ مُوسَى، ولم ينسب الَّذي في الاعتصام [خ¦7357]، والبخاريُّ قال هناك: حدَّثنا يحيى حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ كما ذكر هنا، قال: وذكر أبو نَصْرٍ أنَّ يحيى بنَ جعفرٍ يروي عن ابنِ عُيَيْنَةَ، ووقع في شرح بعض شيوخنا: حدَّثنا يحيى_يعني ابنَ مُعَاوِيَةَ بنِ أَعْيُنٍ_ ولا أعلم في البخاريِّ مَنِ اسمه كذلك.
          ثانيها: أغرب ابنُ حزمٍ فطعن في «محلَّاه» في رواية: ((فَتَطَهَّرِي بِهَا)) وفي رواية: ((فَتَوَضَّئِي بِهَا)) بأن قال: لم تُسند هذه اللَّفظة إلَّا مِنْ طريق إبراهيمَ بنِ مُهَاجِرٍ، وهو ضعيفٌ، ومِنْ طريق منصورِ بنِ صَفِيَّةَ وقد ضُعِّفَ، وليس ممَّن يحتجُّ بروايته، هذا كلامه، وإبراهيمُ هذا قد احتجَّ به مسلمٌ، ووثَّقه أحمدُ والنَّسَائِيُّ وغيرهما، وضعَّفه ابنُ معينٍ بحضرة عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْدِيِّ، فغضب عبدُ الرَّحمنِ وكره ما قال، نعم، قال يحيى بنُ سَعِيْدٍ: ليس بالقويِّ ويُضَعِّفُه / أيضًا مَنْصُورُ بنُ صَفِيَّةَ مِنْ أفراده، وقد أخرج الشَّيخان الحديث مِنْ جهته، ووثَّقه النَّاس: أحمدُ وابنُ عُيَيْنَةَ وغيرهما.
          ثالثها: لمَّا ساق مسلمٌ الحديث بسياقه بزيادة: ((وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ)) فذكرَه، قال: وحدَّثنا يحيى بنُ يحيى وأبو بَكْرٍ بنُ أبي شَيْبَةَ، كلاهما عن أبي الأَحْوَصِ عن إبراهيمَ بنِ مُهَاجِرٍ عن صَفِيَّةَ، وساق الحديث، وقال: ولم يذكر فيه غسل الجنابة كذا قال، وقد ساقه ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديث شُعْبَةَ عن إبراهيمَ، وفيه غسل الجنابة، وكذا أبو داودَ فاستفده.
          رابعها: هذه السَّائلة هي أسماءُ بنتُ شَكَلٍ، كذا ثبت في «صحيح مسلمٍ»، والكاف مفتوحةٌ وحُكِيَ إسكانها، وتبعه على ذلك جماعاتٌ منهم: ابنُ طاهرٍ وأبو مُوسَى في كتابه «معرفة الصَّحابة»، وقال الخطيبُ في«مبهماته»: إنَّها أسماءُ بنتُ يزيدَ بنِ السَّكَنِ خطيبة النِّساء، وروى حديثًا لذلك، وبه جزم ابنُ الجَوْزِيِّ في «تلقيحه» لكنَّه جزم بالأوَّل في «مشكل الصَّحيحين» وصوَّبه بعض الحفَّاظ المتأخِّرين؛ لأنَّه ليس في الأنصار من اسمه شَكَلٌ، ويجوز تعدُّد الواقعة، ويؤيِّده تفريق ابنُ مَندَه بين التَّرجمتين، وأنَّ ابنَ سَعْدٍ والطَّبَرَانِيَّ وغيرهما لم يذكروا هذا الحديث في ترجمة بنت يزيدَ، ولم ينفرد مسلمٌ بذلك، فقد أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مسنده»، وأبو نُعَيْمٍ في «مستخرجه» كما ذكره مسلمٌ سواءٌ.
          خامسها: ترجم البخاريُّ على هذا الحديث دلك المرأة نفسها، ولم يذكره فيه، وكأنَّه أراد أصل الحديث، إذ في مسلمٍ: ((ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيْدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا))، أو يكون فهم مِنْ قولها: (تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ) الدَّلك، وقد قيل، وترجم عليه أيضًا غسل المحيض، ولم يذكر فيه إلَّا التَّطيُّب، وقد ذكره مسلمٌ في حديثه مطوَّلًا كما أشرنا إليه، فكأنَّه أراد أصل الحديث.
          سادسها: المحيضُ: هنا الحيضُ، ويُؤْخَذُ منه أنَّه لا عَارَ على مَنْ سأل عن أمرِ دينِه.
          سابعها: الفِّرصة _مثلَّثة الفاء كما حكاه ابنُ سِيدَه والكسر أشهرها_ القطعة مِنَ القطن أو الصُّوف. وفي أبي داودَ عن أبي الأَحْوَصِ أنَّه كان يقول: قُرصة _أي بالقاف_ أي شيئًا يسيرًا مثل القُرصة بطرف الإصبعين، وقال أبو عُبَيْدٍ وابنُ قُتَيْبَةَ: إنَّما هو قُرضَةٌ _بالقاف المضمومة والضَّاد المعجمة_ وتدلُّ عليه الرِّواية السَّالفة: (فِرْصَةً مُمَسَّكَةً).
          ثامنها: المِسك _بكسر الميم_: يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ وهو المعروف، و(مُمَسَّكَةً) في الرِّواية الأخرى بتشديد السِّين، أي مُطَيَّبَةً بالمسك، وأبعد مَنْ خفَّف السِّين، وفتحها أو كسرها، أي: مِنَ الإمساك.
          وادَّعى القاضي عِيَاضٌ أنَّ الفتح في المسك رواية الأكثرين وهو الجلد _أي قطعةٌ_ فيه شعرٌ، وبه جزم ابنُ قُتَيْبَةَ، وأنَّ معناه الإمساك؛ لأنَّه لم يكن للقوم وسعٌ في المال بحيث يستعملون الطِّيب في مثل هذا.
          وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: (مُمَسَّكَةً) أي خَلِقًا فإنَّه أصلح لذلك، ولا يستعمل الجديد للارتفاق به، وذلك غريبٌ منهما، وكيف يصحُّ أن يُقَالَ: خذي قطعةً مِنْ إمساكٍ، والمسك عند أهل الحجاز كثيرٌ.
          ولمَّا ذكر الخَطَّابِيُّ قول ابنِ قُتَيْبَةَ أنَّ المسك لم يكن عندهم ممتهنًا، قال: الَّذي قاله أشبه، ولمَّا ذكر قوله: قطعة قطنٍ أو صوفٍ مُطَيَّبَةٌ بمسكٍ قال: فيه بُعْدٌ.
          تاسعها: (سُبْحَانَ اللهِ!)، هنا المراد بها التَّعَجُّبُ، أي: كيف يخفى مثل هذا الظَّاهر، وقولها: (تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ) يعني: الفَرْج، وأغرب المُحَامِلِيُّ فقالَ في «مقنعه»: كلُّ موضعٍ أصابَه الدَّمُ مِنْ بدنها ومعنى: (تَوَضَّئِي بِهَا) تنظَّفي بها.
          عاشرها: في أحكامه:
          فيه: استحباب تطييب فرج المرأةِ بأخذِ قطعةٍ مِنْ صوفٍ ونحوِها، وتجعلُ عليها مسكًا أو نحوَه، وتُدخِلُه في فرجِها بعد الغسلِ على الصَّواب، والنُّفساء مثلها.
          وفيه: استعمال الكنايات فيما يتعلق بالعورات، وقول: سبحان الله عند التَّعجُّب، وأنَّ للسائل أن يتفهَّم السُّؤال إذا لم يفهم أوَّلًا، وتكرير الجواب، واستعمال الحياء والإعراض بالوجه، وأنَّ السَّائل إذا لم يتفهَّم وفهَّمه بعض مَنْ في المجلس والعالم يسمع أنَّ ذلك سماعٌ مِنَ العالم، يجوز أن يقول فيه: حدَّثني وأخبرني.
          ثمَّ اعلم أنَّ غسل المرأة مِنَ الحيض كغسلها مِنَ الجنابة سواءٌ، وتزيد على ذلك استعمال الطِّيب.