شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يقتل المحرم من الدواب

          ░7▒ باب: مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ على الْمُحْرِمِ في قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ). [خ¦1826]
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ ◙: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لا حَرَجَ على مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ).
          وفيه: عَائِشَةُ عن النَّبيِّ صلعم مثل معناه. [خ¦1829]
          وفيه: عبدُ اللهِ: (بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبيِّ صلعم في غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَت عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلاتِ}[المرسلات:1]وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّي لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، قَالَ النَّبيُّ ◙: اقْتُلُوهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبيُّ ◙: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا). [خ¦1830]
          قَالَ أَبُو عبدِ اللهِ: أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا.
          فيه عائشةُ: (أنَّ الرَّسُولَ صلعم قالَ للوَزَغِ فُوَيسِق وَلَم أَسْمَعْه أَمَرَ بِقَتْله).
          أجمع العلماء على القول بجملة هذه الأحاديث، إلَّا أنَّهم اختلفوا في تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة: مالك والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق، قالوا: ولم يَعنِ بالكلب العقور الكلاب الإنسيَّة، وإنَّما عنى بذلك كلَّ سبع يعقر، كذلك فسَّره مالك وابن عيينة وأهل اللُّغة.
          وقال الخليل: كلُّ سبع عقور كلب. وذكر ابن عيينة أنَّ زيد بن أسلم فسَّره له كذلك، وكلُّهم لا يرى ما ليس من السِّباع في طبعه العقر والعداء في الأغلب من معنى الكلب العقور في شيء، ولا يجوز عندهم للمحرم قتل الهرِّ الوحشيِّ ولا الثَّعلب ولا الضَّبع.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقتل المحرم من السِّباع إلَّا الخمس المذكورة في الحديث فقط، والكلب العقور عنده الكلب المعروف، وليس الأسد في شيء منه.
          وأجازوا قتل الذِّئب خاصَّة من غير الخَمس، وسوى هذه الخمس والذِّئب ابتدأته أم لا، ولا شيء عليهم فيهما، وأمَّا غيرها من السِّباع فلا يقتلها، فإن قتلها فداها إلَّا أن تبتدئه، فإن بدأته فقتلها فلا شيء عليه.
          وقال الشَّافعيُّ: لا جزاء في قتل جميع مالا يؤكل، سواء كان طبعه الابتداء بالضَّرر أم لا، ولا جزاء عنده إلَّا في قتلِ صيدٍ حلالٍ أكله عنده من سباع الوحش أو الطَّير. قال ابن القصَّار: والحجَّة على أبي حنيفة أنَّ الكلب العقور اسمٌ لكلِّ ما يتكلَّب من أسدٍ أو نمرٍ أو فهدٍ، فيجب أن يكون جميع ما يتناوله هذا الاسم داخل تحت ما أبيح للمحرم قتله. /
          وقد روى زيد بن أسلم عن عبد ربِّه، عن أبي هريرة أنَّه قال: الكلب العقور: الأسد. وقال صلعم في عُتْبَة بن أبي لهبٍ: ((اللَّهُمَّ سلِّط عليه كلبًا من كلابك. فعدا عليه الأسد فقتله)).
          فإذا أباح ◙ قتل الكلب العقور لخوف عقره وضرره، فالسَّبع الذي يفترس ويقتل أعظم وأولى لأنَّه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحة قتل ما هو دونه، ولما قال ◙: (خَمسٌ فَواسِقٌ يُقتَلنَ)فسماهنَّ فواسق لفسقهنَّ وخروجهنَّ لما عليه سائر الحيوان، لما فيهن من الضرر، فأباح قتلهنَّ لهذه العلَّة، كان الضَّرر الذي في الأسد والنَّمر والفهد أعظم، فهو بالفسق وإباحة القتل أولى، لأنَّه إذا نصَّ على شيء لضرره فإنَّما نبَّه بذلك على أنَّ الجنس الذي هو أكثر ضررًا أولى بذلك.
          كما ذكر الحيَّة والعقرب، فنبَّه بهما على ما هو أعظم ضررًا من جنسهما، ونصَّ على الفأرة، ونبَّه على ما هو أقوى حيلة من جنسها، ونصَّ على الغراب والحِدَأ، لأنَّهما يكثران ويأخذان أزواد النَّاس، فكذلك نصَّ على الكلب لينبِّه به على ما هو أعظم ضررًا منه، وأجاز مالك قتل الأفعى، وهي داخلة عنده في معنى الكلب العقور، والكلب العقور عنده صفة لا عين مسمَّاة.
          قال المؤلِّف: وقد نقض أبو حنيفة أصله في الذِّئب فألحقه بالخمس، وليس بمذكور في الحديث، فكذلك يلزمه أن يجعل الفهد والنَّمر وما أشبههما في العدي بمنزلة الذِّئب.
          فإن قيل: إنَّ الضَّبع من السِّباع، وهي غير داخلة عندكم فيما أبيح للمحرم قتله، قيل: قد قال الأوزاعيُّ: كان العلماء بالشَّام يعدُّونها من السِّباع، ويكرهون أكلها. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: لا يقتل الضَّبع بحال، وقد جاء أنَّ فيها شاة إلَّا أن تؤذيه. وكذلك قال في الغراب والحدأة.
          قال أشهب: سألت مالكًا: أيقتلهما(1) المحرم من غير أن يضرَّانه؟ قال: لا، إنَّما أذن في قتلهما إذا أضرَّا في رأيي، وإذا لم يضرَّا فهما صيد، وليس للمحرم أن يصيد، وليسا مثل العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإن لم يضرَّا، وكذلك الحيَّة.
          والحجَّة على الشَّافعيِّ في أنَّه لا يوجب الجزاء فيما خاصَّهُ عمومُ قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}[المائدة:95]والصَّيد: عبارة عن الاصطياد، والاصطياد يقع على ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وليس المعتبر في وجوب الجزاء كون المقتول مأكولًا، لأنَّ الحمار المتولِّد عن الوحشيِّ والأهليِّ لا يؤكل، وفي قتله الجزاء على المحرم.
          قال ابن المنذر: ولا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرم للفأرة، إلَّا النَّخَعِيَّ فإنَّه منع المحرم من قتلها، وهذا خلاف السُّنَّة وخلاف قول أهل العلم، وروي عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السُّنَّة، وشذَّت فرقة من أهل الحديث فقالوا: لا يقتل المحرم إلَّا الغراب الأبقع خاصَّة. ورووا في ذلك حديثًا عن قَتادة، عن ابن المسيِّب، عن عائشة، عن النَّبيِّ صلعم، وهذا الحديث لا يعرف من حديث ابن المسيِّب، ولم يروه عنه غير قَتادة، وهو مدلِّسٌ، وثقاتُ أصحابِ سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم، مع معارضته حديث ابن عمر وحفصة، فلا حجَّة فيه، وأجمع العلماء على جواز قتل الحيَّة في الحلِّ والحرم، وقال سفيان: قال لنا زيد بن أسلم: وأيُّ كلب أعقر من الحيَّة.
          قال الطَّبريُّ: فإن قيل: قد صحَّ أمر النَّبيِّ صلعم بقتل الحيَّات، فما أنت قائل فيما روى مالك عن نافع، عن أبي لبابة بن عبد المنذر أخبره ((أنَّ رسول الله صلعم نهى عن قتل حيَّات البيوت)). قيل: قد اختلف السَّلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم بظاهر أمر النَّبيِّ صلعم بقتل الحيَّات كلِّها من غير استثناء شيء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله: ((اقتلوا الحيَّات كلَّهنَّ، فمن خاف ثأرهنَّ فليس منِّي)) روي هذا القول عن عمر وابن مسعود.
          وقال آخرون: لا ينبغي أن يقتل عوامر البيوت وسكَّانها إلَّا بعد مناشدة العهد الذي أخذ عليهنَّ، فإن ثبت / بعد إنشاده قُتل، واعتلُّوا بحديث أبي سعيد الخدريِّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيَّام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنَّه شيطان)).
          قال الطَّبريُّ: وجميع هذه الأخبار عن النَّبيِّ صلعم حقٌّ وصدقٌ، وليس في شيء منها خلافٌ لصاحبه، والرِّواية عن النَّبيِّ صلعم أنَّه أمر بقتل الحيَّات من غير استثناء شيءٍ منها خبرٌ مجملٌ، بيَّن معناه الخبرُ الآخر أنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلَّا بعد النِّشدة بالعهود والمواثيق التي أخذ عليها حذار الإصابة، فأقلُّ ذلك شيئًا من التَّمثُّل بالحيَّات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرِّس بأهله إذ قتل الحيَّة التي وجدها على فراشه قبل مناشدته إيَّاها، وذلك أنَّه ربَّما تمثَّل بعض الجنِّ ببعض صور الحيَّات، فيظهر لأعين بني آدم، كما روى ابن أبي مليكة عن عائشة بنت طلحة، أنَّ عائشة أمَّ المؤمنين رأت يومًا في مغتسلها حيَّةً فقتلتها، فأتيت في منامها فقيل لها: إنَّك قتلت مسلمًا. فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمَّهات المؤمنين. فقيل: ما دخل عليك إلَّا وعليك ثيابك. فأصبحت فزعةً، ففرَّقت في المساكين اثنا عشر ألفًا.
          وقال ابن نافع: لا ينذر عوامر البيوت إلَّا بالمدينة خاصَّة على ظاهر الحديث. وقال مالك: أحبُّ إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر في الصَّحاري.
          وقال غيره: المدينة وغيرها سواء في الإنذار، لأنَّ العلَّة إسلام الجنِّ، ولا يحلُّ قتل مسلم جنِّيٍّ ولا إنسيٍّ.
          قال المُهَلَّب: في تسمية النَّبيِّ صلعم الوزغ فواسقًا(2) ما يدلُّ على عقرها، كما سمَّى العقورات كلَّها فواسق، وقد روى الدَّراوَرديُّ(3) عن مالكٍ، عن ابن شهابٍ، عن سعد بن أبي وقَّاص ((أنَّ النَّبيَّ صلعم أمرَ بقتلِ الوَزغِ)) ولكن الحديث مرسل، لأنَّ ابن شهاب بينه وبين سعدٍ رجلٌ، وذكر ابن الموَّاز عن مالكٍ قال: سمعت أنَ رسول الله أمر بقتل الوزغ، فأمَّا المحرم فلا يقتلها، فإن قتلها رأيت أن يتصدَّق مثل شحمة الأرض. قيل له: وقد أذن الرَّسول صلعم في قتلها؟ قال: وكثير ممَّا أذن الرَّسول صلعم في قتله لا يقتله المحرم.
          وروى ابن القاسم وابن وهب، عن مالك قال: لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ، لأنَّه ليس من الجنس الذي أمر الرَّسول صلعم بقتلهنَّ، فإن قتلها تصدَّق. قال: ولا يقتل المحرم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحيَّة الصغيرة ولا صغار السِّباع.
          وقال الشَّافعيُّ: ما يجوز للمحرم قتله فصغاره وكباره سواءٌ لا شيء عليه في قتلها. وقال مالك في «الموطأ»: ولا يقتل المحرمُ ما ضَرَّ من الطَّير إلَّا ما سمَّى الرَّسولُ: الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما من الطَّير فَدَاهُ.
          قال إسماعيل: واختلف المدنيُّون في الزَّنبور، فشبَّهه بعضهم بالحيَّة والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شيء. وذكر ابن المنذر أن عُمَر بن الخطَّاب كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه. وقال بعضهم: يُطعم شيئًا.
          قال إسماعيل: وإنَّما لم يدخل أولاد الكلب العقور في حكمه، لأنَّهن لا يعقرن في صغرهنَّ، وقد سمَّى رسول الله الخمس فواسق، والفواسق: فواعل، والصِّغار لا فعل لهنَّ.
          وقال الخطَّابيُّ: أصل الفسق الخروج عن الشَّيء، ومنه قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف:50]أي: خرج، وسمِّي الرجل فاسقًا لانسلاخه من الخير.
          وقال ابن قتيبة: لا أرى الغراب سمَّاه فاسقًا إلَّا لتخلُّفه عن أمر نوح حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إيَّاه. وحكي عن الفرَّاء أنَّه قال: ما أحسب الفأرة سمِّيت فويسقة إلَّا لخروجها من جحرها على النَّاس.
          قال أبو سليمان: ولا يعجبني واحد من القولين، وقد بقي عليهما أن يقولا مثل ذلك في الحدأة والكلب، إذ كان هذا النَّعت يجمعهما، وهذا اللَّقب يلزمهما لزومه الغراب والفأرة، وإنَّما أراد _والله أعلم_ بالفسق الخروج من الحرمة، يقول: خمس لا حرمة لهنَّ، ولا بغيًا عليهنَّ، ولا فدية على المحرم فيهنَّ إذا أصابهنَّ، وإنَّما أباح قتلهنَّ لعاديتهنَّ.
          وفيه: وجه آخر، وهو أن يكون أراد بتفسيقها تحريم أكلها، كقوله تعالى وقد ذكر المحرمات: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}[المائدة:3]يدلُّ على صحَّة هذا ما رواه المسعوديُّ، عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيِّ صلعم قال: ((الغراب فاسق)). فقال رجل من القوم: أيؤكل لحم الغراب؟ قالت: لا، ومن يأكله بعد قوله: ((فاسق)). وروت عَمْرة مثله عن عائشة وقالت: والله ما هو من الطَّيِّبات، تريد قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}[الأعراف:157]وممَّا يدلُّ على أنَّ الغراب يقذر لحمه قول الشاعر:
فَما لحمُ الغرابِ لنا بـزادٍ                     ولا سَرَطان أنَّهارِ البَرِيصِ


[1] صورتها في (ص): ((يقتلها)) والمثبت أنسب للسياق.
[2] كذا في (ص) والجادة: ((فواسق)) لأنه ممنوع من الصرف.
[3] في (ص): ((الداودي)) والمثبت من المطبوع.