شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة

          ░23▒ باب: الْحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ على الرَّاحِلَةِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ، عن الفَضْلِ: (أنََ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي شَيْخًا كَبِيرًا ما يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ على الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ). [خ¦1854]
          وترجم له: باب: حجِّ المرأةِ عنِ الرَّجلِ. واختلف العلماء في الذي لا يستطيع أن يستوي على الرَّاحلة لكبرٍ أو ضعف أو زمانة، فذكر الطَّبريُّ أنَّ رجلًا أتى عليَّ بن أبي طالب فقال: كبرتُ وضعفتُ وفرَّطت في الحجِّ. فقال: إن شئت فجهَّزت رجلًا فحجَّ عنك.
          وقال مالكٌ: لا يلزمه فرض الحجِّ أصلًا وإن وجد المال وأمكنه أن يحمل من يحجُّ عنه. وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: هو مستطيعٌ يلزمه أن يحجَّ غيره يؤدِّي عنه الحجَّ. واختلفا فقال الشَّافعيُّ: إذا بذل له ابنه الطَّاعة وهو غير واجدٍ للمال، فإنه يحجَّ عنه ويلزمه فرض الحجِّ. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إلَّا إذا كان واجدًا للمال يمكنه أن يحمل غيره يحجَّ عنه. واحتجَّ أصحاب أبي حنيفة والشَّافعيُّ بحديث الخَثعَميَّة.
          قال: وفي الحديث دليلان على وجوب الحجِّ على المغضوب: أحدها: أنَّها قالت: (إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ في الْحَجِّ أَدْرَكَتْ) فأقرَّها الرَّسول صلعم على ذلك، ولو لم يلزمه وهي قد ادَّعَت وجوبه على أبيها بحضرته لأنكره ◙. والثَّاني: أنَّه شبَّهه بالدَّيْن في رواية عبد الرَّزَّاق، عن ابن عيينة، عن عَمْرو بن دينارٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلعم حين أمر أن يحجَّ عن الشَّيخ الكبير، قيل: أوَ ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما يكون على أحدكم الدَّيْن فيقضيه)).
          ولهذا: الدَّيْنُ الذي يُقضى عن الإنسان يكون واجبًا عليه، ومن قضاه أسقط الفرض والمأَثم، فكذلك يجب أن يكون الحجُّ، مَنْ قضاه أسقط الفرض والمأثم جميعًا لقولها: (فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟) وروى عبد الرَّزَّاق: ((أينفعه أن أحجَّ عنه؟ قال: نعم)).
          قال ابن القصَّار: ولا دلالة لهم فيه، لأنَّها قالت: (إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ في الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي) ولم تقل: فرضت على أبي، وإنَّما قالت: إنَّها نزلت وأبي شيخٌ. أي: فرضت في وقتٍ أبي كبير لا يلزمه فرضها، فلم ينكر ◙ قولها، وقد يمكن أنَّها وهمت أنَّ الذي فرض على العباد يجوز أن يدخل فيه أبوها غير أنَّه لا يقدر على الأداء.
          ولا يمتنع أن يتعلَّق الوجوب بشرطيَّة القدرة على الدَّاء، فيكون الفرض وجب على أبيها ثمَّ وقت الدَّاء كان عاجزًا، لأنَّ الإنسان لو كان واجدًا للرَّاحلة والزَّاد، وكان قادرًا ببدنه، لم يمتنع أن يقال له في الحرم: قد فُرِض عليك الحجُّ، فإن بقيت على ما أنت عليه إلى وقت الحجِّ لزمك الأداء وإلَّا سقط عنك.
          ونحن نعلم أنَّه(1) فرض تراخي عن وقت الحجِّ المضيَّق، وإنَّما سألته في وقت الأداء عن ذلك، وقولها: (أَفأحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ) لا يدلُّ على أنَّ الأداء كان مقدَّرًا عليه فسقط بفعلها، ولكنَّه أراد◙ / أنَّها إن فعلت ذلك لحقه ثواب ما تنفعه من دعائها في الحجِّ، كما لو تطوَّعت بقضاء دينه، لا أنَّه مثل الدَّين في الحقيقة، لأنَّ الدَّين حقٌّ لآدمي يسقط بالإبراء ويؤدِّي عنه مع القدرة والعجز بأمره مع الصِّحة وغير أمره، ولو كان كالدَّين كان إذا حجَّت عنه ثمَّ قوي وصحَّ سقط عنه، كما يقضى دين المعسر.
          وفي حديث الخثعميَّة جواز حجِّ المرأة عن الرَّجل، وأجازه جماعة الفقهاء إلَّا الحسن بن صالحٍ، فإنَّه قال: لا يجوز. واعتلَّ بأنَّ المرأة تلبس الثِّياب في الإحرام والرَّجل لا يلبسها. قال ابن المنذر: وهذه غفلةٌ وخروجٌ عن ظاهر السُّنَّة، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر المرأة أن تحجَّ عن أبيها، وعلى هذا يعتمد من أجاز الحجَّ عن غيره.
          واختلفوا في المريض يأمر من يحجُّ عنه، ثمَّ يصحُّ بعد ذلك وتعذَّر، فقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: لا يجزئه، وعليه أن يحجَّ. وقال أحمد وإسحاق: يجزئه الحجُّ عنه. وكذلك إن مات من مرضه وقد حُجَّ عنه، فقال الكوفيُّون وأبو ثورٍ: يجزئه من حجَّة الإسلام. وقال الشَّافعيُّ فيها قولان: أحدهما: هذا. والثَّاني: لا يجزئ عنه. وهو أصحُّ القولين.


[1] في (ص): ((أن)) والمثبت من المطبوع.