شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يعضد شجر الحرم

          ░8▒ باب: لا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ.
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (عَنِ الرَّسُولِ صلعم: لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ).
          فيه: أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: (ائْذَنْ لي أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ حَدَّيثًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لأحَد يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَة) الحديث إلى قوله: (أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ). [خ¦1832]
          قال الطَّبريُّ: معنى قوله ◙: (لا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً) يعني: لا يفسد ولا يقطع، وأصله من عضد الرَّجلُ الرَّجلَ، إذا أصاب عضده ذلك، عضد فلان فلانًا يعضد عضدًا، وفي كتاب «العين»: المِعضَد من السُّيوف: الممتهن في قطع الشَّجر.
          قال الطَّبريُّ: لا يجوز قطع أغصان شجر مكَّة التي أنشأها الله فيها ممَّا لا صنع فيه لبني آدم، إذا لم يجز قطع أغصانها فقطع شجرها بالنَّهي عن ذلك أولى.
          وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على من قطعها، فذهب مالك إلى أنَّه لا يجب عليه إلَّا الاستغفار، وهو مذهب عطاء، وبه قال أبو ثور، وذكر الطَّبريُّ عن عُمَر بن الخطَّاب مثل معناه.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن قطع ما أنبته آدميٌّ فلا شيء عليه، وإن قطع ما أنبته الله كان عليه الجزاء حلالًا كان أو حرامًا، فإن بلغ هديًا كان هديًا، وإن قُوِّم طعامًا فأطعم كلَّ مسكين نصف صاعٍ.
          وقال الشَّافعيُّ: عليه الجزاء في الجميع، المحرم والحلال في ذلك سواء، في الشَّجرة الكبيرة بقرة، وفي الخشب قيمته ما بلغت دمًا كان أو طعامًا. وحكى بعض أصحاب الشَّافعيِّ أنَّ مذهبه كمذهب أبي حنيفة فيما أنبته الآدميُّ، ذكره ابن القصَّار، واحتجُّوا بقوله ◙: (لَا يُقْطَعُ شَجَرُها) قالوا: وهذا نهي يقتضي التَّحريم، وإذا ثبت تحريمه وجب فيه الجزاء كالصَّيد.
          قال ابن القصَّار: فيقال لهم: النَّهي عن قطعه لا يدلُّ على وجوب الجزاء، كالنَّهي عن تنفير الصَّيد والإشارة والمعاونة عليه، وقد روي أنَّ عُمَر بن الخطَّاب رأى رجلًا يقطع من شجر الحرم، فسأله: لِمَ تقطعه؟ فقال: لا نفقة معي، فأعطاه نفقةً ولم يوجب عليه شيئًا. ولو كان قطع الشَّجر كالصَّيد لوجب على المحرم إذا قطعها في حلٍّ أو حرمٍ الجزاء كما يجب في الصَّيد.
          قال ابن المنذر: ولا أجد دلالة أوجِب بها في شجر الحرم شيئًا من كتاب ولا سنَّة ولا إجماع، وبقول مالك أقول، وأجمع العلماء على إباحة أخذ كلِّ ما ينبته النَّاس في الحرم من البقول والزَّرع والرَّياحين وغيرها، فوجب أن يكون ما يغرسه النَّاس من النَّخيل والشَّجر مباح قطعه، لأنَّ ذلك بمنزلة الزَّرع الذي يزرعونه، فقطعه جائز، وما يجوز قطعه فمحال أن يكون فيه جزاء، هذا يقال للشَّافعيِّ، فإن قال: فأوجب الجزاء فيما أنبته الله. قيل: لا أجد دلالة أُوجب بها ذلك من كتاب ولا / سنَّة ولا إجماع، فوجب رَدُّ ما أنبته الله إلى ما أنبته الآدميُّ في سقوط الجزاء.
          وقوله: (فَلا يَحِلُّ لامرِئ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فيِهَا دَمًا) اختلف العلماء فيمن أصاب حدًّا في غير الحرم من قتلٍ أو زنًا أو سرقةٍ، ثمَّ لجأ إلى الحرم، هل تنفعه استعاذته؟ فقالت طائفة: لا يجالس ولا يبايع ولا يكلَم ولا يؤوى(1) حتَّى يخرج منه، فيؤخذ بالواجب لله عليه، وإن أتى حدًّا في الحرم أقيم عليه فيه.
          روي ذلك عن ابن عبَّاس، وهو قول عطاء والشَّعبيِّ والحكم، وعلَّة هذه المقالة ظاهر قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}[آل عِمْرَان:97]قالوا: فجعل الله حرمه أمنًا لمن دخله، فداخله آمنٌ من كلِّ شيءٍ وجب عليه قبل دخوله حتَّى يخرج منه، وأمَّا من كان فيه فأتى فيه حدًّا فالواجب على السُّلطان أخذه به، لأنَّه ليس ممَّن دخله من غيره. قاله الطَّحاويُّ والطَّبريُّ.
          قال الطَّبريُّ: وعلَّتهم في أنَّه لا يكلَّم ولا يبايع حتَّى يخرج من الحرم أنَّه(2) لمَّا كان غير محظورٍ عليهم كان لهم فعله ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ منه.
          وقال آخرون: لا يُخرج من لجأ إلى الحرم حتَّى يخرج منه فيقام عليه الحدُّ، ولم يحظروا مبايعته ولا مجالسته. روي ذلك عن ابن عمر، وقال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته. وعلَّة هذه المقالة أنَّ الله جعل الحرم أَمنًا لمن دخله، ومن كان خائفًا وقوع الاحتيال عليه فإنَّه غير آمنٍ، فغير جائزٍ إخافته بالمعاني التي تضطره إلى الخروج منه لأخذه بالعقوبة التي هرب من أجلها.
          وقال آخرون: من أتى في الحرم ما يجب به عليه الحدُّ فإنَّه يقام عليه ذلك فيه، ومن أتاه في غيره فدخله مستجيرًا به فإنَّه يُخرج منه ويُقام عليه الحدُّ. روي ذلك عن ابن الزُّبير والحسن ومجاهدٍ وعطاءٍ وحمَّادٍ، وعلَّة هذه المقالة أنَّ الله إنما جعل الحرم لمن دخله أمنةً من أن يعاقب فيه، ولم يجعله أمنةً من الجزاء الذي أوجبه عن من فعله.
          وذكر الطَّحاويُّ عن أبي يوسف قال: الحرم لا يجير ظالمًا، وإنَّ من لجأ إليه أقيم عليه الحدُّ الذي وجب عليه قبل أن يلجأ إليه. ويشبه هذا أن يكون مذهب عَمْرو بن سعيد لقوله: (إِنَّ الحرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِخُرْبَةٍ) فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، وقال قَتادة في قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}[آل عِمْرَان:97]كان ذلك في الجاهليَّة، فأمَّا اليوم فلو سرق في الحرم قُطع، ولو قَتل فيه قُتل، ولو قُدر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم من إقامة الحدود عند مالك، واحتجَّ بعض أصحابه بأنَّ الرَّسول صلعم قتل ابن خَطَل وهو متعلِّق بأستار الكعبة من القتل، وهذا القول أولى بالصَّواب، لأنَّ الله تعالى أمر بقطع السَّارق، وجلد الزَّاني، وأوجب القصاص أمرًا مطلقًا ولم يخصَّ به مكانًا دون مكانٍ، فإقامة الحدود تجب في كلِّ مكانٍ على ظاهر الكتاب.
          وممَّا يشهد لذلك أمر الرَّسول صلعم بقتل الفواسق المؤذية في الحرم، فقام الدَّليل من هذا أنَّ كلَّ فاسقٍ استعاذ بالحرم أنَّه يقتل بجريرته، ويؤخذ بقصاص جُرْمه.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: وقد أنزل الله الحدود والأحكام على العموم بين النَّاس، فلا يجوز أن يترك حكم الله في حرمٍ ولا غيره، لأنَّ الذي حرَّم الحرم هو الذي حرَّم معاصيه أن ترتكب، وأوجب فيها من الأحكام ما أوجب. وسيأتي طرف من هذه المسألة في باب(3): من قتل له قتيل فهو بخير النَّظرين، في كتاب الدِّيات إن شاء الله. [خ¦6880] وذكر الطَّحاويُّ عن أبي حنيفة وزُفَر وأبي يوسف ومحمَّد كقول ابن عبَّاس، إلَّا أنَّهم يجعلون ذلك أمانًا في كلِّ حدٍّ يأتي على النَّفس من حدود الله وحدود عباده، مثل أن يزني وهو محْصَن، أو يرتدَّ عن الإسلام، أو يقتل رجلًا عمدًا، أو يقطع طريق المسلمين، فيجب عليه القتل فيلجأ إلى الحرم فيدخله، ولا يجعلون ذلك على الحدود التي لا تأتي على النَّفس، كقطع السَّارق والقود في قطع الأيدي وشبهها، والتَّعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات.
          قال الطَّحاويُّ: ولا وجه لتفريقهم بين الحدود التي تأتي على النَّفس وبين التي لا تأتي عليها، لأنَّ الحرم إن كان دخوله يؤمن عند العقوبات في الأنفس يؤمن فيما دونها، وإن كان لا يؤمن من العقوبات / فيما دون الأنفس فلا يؤمن منها في الأنفس، ولم يفرِّق ابن عبَّاس بين شيء من ذلك، فقوله أولى من قول أبي حنيفة وأصحابه لا سيَّما ولا يُعلم أحد من أصحاب النَّبيِّ صلعم خالفه في قوله.


[1] كذا ترجحت قراءتنا لهذه الكلمة من (ص) وهي كذلك في التوضيح، وبيض لها في المطبوع.
[2] في (ص): ((فإنَّه)) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ص): ((كتاب)) والمثبت من المطبوع.