شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل

          ░6▒ بَاب: إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلعم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا في وَجْهِهِ، قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ). [خ¦1825]
          أجمع العلماء أنَّه لا يجوز للمحرم قبول صيدٍ، حتَّى إذا وُهب له بعد إحرامه، ولا يجوز له شراؤه، ولا إحداث ملكه، لعموم قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}[المائدة:95]ولحديث صعب، فإنَّما ردَّه ◙ لأنَّه لا يحلُّ للمحرم تذكية الصَّيد ولا إهلاله، وقال أشهب: سمعت مالكًا يقول: كان الحمار حيًّا.
          قال الطَّحاويُّ: وقد روى هذا الحديثَ عن ابن عبَّاس جماعةٌ من أصحابه: سعيد بن جبير وعطاء ومِقسَم وطاوس، ففي حديث سعيد ابن جبير ((أنَّه أهدي لرسول الله صلعم حمارًا وحشيًّا فردَّه، وكان مذبوحًا)). وقال مرَّة: ((أهدي إليه عجز حمار فردَّه يقطر دمًا)). وقال مِقسَم: ((رِجْل حمار)). وقال عطاء: ((عضد صيد)). وقال طاوس: ((لحم حمار وحش)).
          قال الطَّحاويُّ: قد اتَّفقت هذه الآثار في حديث الصَّعب عن ابن عبَّاس أنَّ الحمار كان غير حيٍّ، فذلك حجَّة لمن كره للمحرم أكل الصَّيد، وإن كان الذي تولَّى صيده وذبحه حلال / وقد خالف ذلك حديث المطَّلب عن جابر.
          قال المؤلِّف: واختلاف هذه الرِّوايات يدلُّ على أنَّه لم تكن قصَّة واحدة، وأنَّه كان في أوقات مختلفة، فمرَّة أهدى إليه الحمار كلَّه، ومرَّة أهدى إليه عجزه لأنَّ مثل هذا لا يذهب على الرُواة ضبطه، حتَّى يقع فيه التَّضادُّ في النَّقل والقصَّة واحدة، والله أعلم.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: سمعت سليمان بن حرب يتأوَّل هذا الحديث على أنَّه صيد من أجل النَّبيِّ صلعم ولولا ذلك كان أكله جائزًا، قال سليمان: وممَّا يدلُّ على أنَّه صيد من أجله قوله في الحديث: ((فردَّه يقطر دمًا)) كأنَّه صيد في ذلك الوقت. قال إسماعيل: وأمَّا رواية مالك أنَّه أهدي إليه حمار وحش، فلا تحتاج إلى تأويل، لأنَّ المحرم لا يجوز له إمساك صيد حيٍّ ولا يذكِّيه، وإنَّما يحتاج إلى التَّأويل من روى أنَّه أهدي إليه بعض الحمار.
          قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث غير مختلفة، أعني حديث الهدي في الحمار العَقِير، وحديث أبي قَتادة، وحديث الصَّعب، ويفسِّرها كلُّها حديث المطَّلب عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((صيد البرِّ لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم)) وقد ذكرته في باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم. [خ¦1821]
          قال الطَّبريُّ: معناه: أو يُصَد لكم بأمركم. قال غيره: وهذا الحديث يشهد لمذهب مالك أنَّه أعدل المذاهب وأولاها بالصَّواب.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث الصَّعب من الفقه ردُّ الهديَّة إذا لم تحلَّ للمهدَى له، وفيه الاعتذار لردِّ الهديَّة.