شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حج الصبيان

          ░25▒ باب: حَجِّ الصِّبْيَانِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (بَعَثَنِي الرَّسولُ صلعم في الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ). [خ¦1856]
          وقالَ: أَقْبَلْتُ، وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ على أَتَانٍ لي، وَرَسُولُ اللهِ صلعم قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ يُصَلِّي بِمِنًى في حَجَّةِ الْوَدَاعِ. [خ¦1857]
          وفيهِ: السَّائِبُ: (حُجَّ بِي مَعَ النَّبيِّ صلعم وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ(1) سِنِينَ). [خ¦1858]
          اتَّفق أئمَّة الفتوى على سقوط فرض الحجِّ عن الصَّبيِّ حتَّى يبلغ، لقوله ◙: ((رفعَ القلمُ عن الصَّبيِّ حتَّى يبلغَ)) إلَّا أنَّه إذا حُجَّ به كان له تطوعًا عند مالكٍ والشَّافعيِّ وجماعة من العلماء وعلى هذا المعنى حمل العلماء أحاديث هذا الباب.
          وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إحرامه ولا يلزمه شيءٌ إن فعل من محظورات الإحرام، وإنَّما يُفعل به ذلك، ويُجنَّب محظوراته على وجه التَّعليم له والتَّمرين عليه، كما قالوا في صلاته أنَّها لا تكون صلاةً أصلًا، وشذَّ من لا يُعدُّ خلافه فقال: إذا حَجَّ الصَّبيُّ قبل بلوغه أجزأه ذلك عن حجَّة الإسلام ولم يكن عليه أن يحجَّ بعد بلوغه، واحتجَّ بحديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ امرأة سألت النَّبيَّ صلعم عن صبيٍّ: هل لهذا حجٌّ؟ قال: ((نعم، ولكِ أجرٌ)) ذكره الطَّحاويُّ.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة على أبي حنيفة في نفيه عنه حجِّ التَّطوُّع ما رواه ابن عبَّاسٍ من قول المرأة: ألهذا حجٌّ يا رسول الله؟ قال: ((نعم، ولك أجرٌ)) فأضاف الحجَّ الشَّرعيَّ إليه فوجب أن يتعلَّق به أحكامه، وأكَّد هذا بقوله: ((ولك أجرٌ)) أخبر أنَّها تستحقُّ الثَّواب عن إحجاجه، وهذا مذهب ابن عبَّاسٍ وابن عمر وعائشة. وقد روي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال لرجلٍ حجَّ بابنٍ صبيٍّ له أصاب حمامًا في الحرم: اذْبَحْ عن ابنك شاةً.
          وأجمع العلماء أنَّ جنايات الصِّبيان لازمةٌ لهم في أموالهم، قال الطَّحاويُّ: وتأويل الحديث عندنا أنَّ النَّبيَّ صلعم أوجب للصَّبيِّ حجًّا وهذا ممَّا قد أجمع النَّاس عليه، ولم يختلفوا أنَّ للصَّبيِّ حجًّا كما أنَّ له صلاةً، وليست تلك الصَّلاة بفريضة عليه، فكذلك يجوز أن يكون له حجًّا ولا يكون فريضةً عليه، وإنَّما هذا الحديث حجَّةٌ على من زعم أنَّه لا حجَّ للصَّبيِّ، وأمَّا من يقول أنَّ له حجًّا وأنَّه غير فريضةٍ فلم يخالف الحديث، وإنَّما خالف تأويل مخالفه خاصَّةً.
          وقال الطَّبريُّ: جعل له صلعم حجًّا مضافًا كما يضاف إليه القيام والقعود والأكل والشُّرب، وإن لم يكن ذلك من فعله على الوجه الذي يفعله أهل التَّمييز باختيارٍ.
          قال الطَّحاويُّ: هذا ابن عبَّاسٍ وهو راوي الحديث قد صرف(2) حجَّ الصَّبيِّ إلى غير الفريضة، حدَّثنا ابن خزيمة، حدَّثنا عبد الله بن رجاءٍ، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي السَّفر(3) / قال: سمعت ابن عبَّاسٍ يقول: يا أيُّها النَّاس، أسمعوني ما تقولون، ولا تخرجوا تقولوا: قال ابن عبَّاسٍ، أيُّما غلامٍ حَجَّ به أهلُه فمات فقد قضى حجَّة الإسلام، فإن عُتِق فعليه الحجُّ.
          وقد أجمعوا أنَّ صبيًّا لو دخل وقت صلاةٍ فصلَّاها، ثمَّ بلغ بعد ذلك في وقتها(4) أنَّ عليه أن يعيدها، فكذلك الحجُّ، وذكر الطَّبريُّ: أنَّ هذا تأويل سلف الأمَّة، وروي أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق حجَّ بابن الزُّبير في خرقةٍ(5)، وقال عمر: أحجُّوا هذه الذُّرِّيَّة. فكان ابن عمر يجرِّد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقيف، وكانت عائشة تفعل ذلك، وفعله عروة بن الزُّبير، قال عطاء: يُجرَّد الصَّغير ويُلبَّى عنه، ويُجنَّب ما يَجنُب الكبير ويُقضَى عنه كلُّ شيء إلَّا الصَّلاة، فإن عَقِل الصَّلاة صلَّاها، فإذا بلغ وجب عليه الحجُّ.
          واختلفوا في الصَّبيِّ والعبد يحرمان بالحجِّ ثمَّ يحتلم الصَّبيُّ ويُعتق العبد قبل الوقوف بعرفة، فقال مالكٌ: لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزئهما عن حجَّة الإسلام. وقال الشَّافعيُّ: إذا نويا بإحرامهما المتقدِّم حجَّة الإسلام أجزأ عنهما. وعند مالكٍ: أنَّهما لو استأنفا الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنَّه لا يجزئهما من حجَّة الإسلام. وهو قول أبي حنيفة، لأنَّه يصحُّ عنده رفض الإحرام.
          وحجَّة مالكٍ أنَّ الله تعالى أمر كلَّ من دخل في حجٍّ أو عُمْرةٍ بإتمامه تطوُّعًا كان أو فرضًا، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}[البقرة:196]ومن رفض إحرامه فلم يتمَّ حجَّه ولا عمرته.
          وحجَّة الشَّافعيِّ في إسقاط تجديد النِّيَّة أنَّه جائز عنده لكلِّ من نوى بإهلاله أن يصرفه إلى ما شاء من حجٍّ أو عُمْرةٍ، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر أصحابه المهلِّين بالحجِّ أن يفسخوه في عُمْرةٍ، فدلَّ أنَّ النِّيَّة في الإحرام ليست كالنِّيَّة في الصَّلاة، وحجَّة أبي حنيفة: أنَّ الحجَّ الذي كان فيه لمَّا لم يكن يجزئ عنده ولم يكن الفرض لازمًا له في حين إحرامه، ثمَّ لمَّا لزمه حين بلغ، استحال أن يشتغل عن فرضٍ قد تعيَّن عليه بنافلةٍ ويعطِّل فرضه، كمن دخل في نافلة، فأقيمت عليه مكتوبة وخشي فوتها قطَع النَّافلة ودخل في المكتوبة وأحرم لها، فكذلك الحجُّ يلزمه أن يجدِّد له الإحرام، لأنَّه لم يكن للفريضة.


[1] في (ص): ((تسع)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((فرض)) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ص): ((الصقر)) والمثبت من المطبوع.
[4] في (ص): ((ثم دخل بعد ذلك وقتها)) والمثبت من المطبوع.
[5] كذا ترجحت قراءتنا لهذه الكلمة في (ص) وهي كذلك في التوضيح، وبيض لها في المطبوع.