شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا ينفر صيد الحرم

          ░9▒ باب: لا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ النَّبيُّ ◙: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلا تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: إِلَّا الإذْخِرَ). فَقَالَ عِكْرِمَة: يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ. [خ¦1833]
          قال الطَّبريُّ: فيه البيان البيِّن أنَّ صيد الحرم حرام اصطياده، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم إذ نهى عن تنفير صيده، فاصطياده أوكد في التَّحريم من تنفيره.
          فإن قيل: أفنقول: إن نفَّر صيده فعليه الجزاء؟ قيل: إن أداه تنفيره إلى هلاك الصَّيد كان عليه الجزاء وإن لم يكن تنفيره سببًا إلى هلاكه لم يجب عليه شيء غير التَّوبة، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء.
          وقد روي عن عطاء أنَّه من أخذ طائرًا في الحرم ثمَّ أرسله قال: يطعم شيئًا لما نفَّره. وقد روي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه لا شيء في التَّنفير، روى شعبة عن الحكم، عن شيخٍ من أهل مكَّة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع على بعض بيوت مكَّة، فجاءت حيَّة فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، فلم ير عمر لمَّا نفَّر الحمامة عليه شيئًا حتَّى تلفت، ورأى أن تلفها كان من سبب تنفيره، وإنَّما استجاز عمر تنفيره من الموضع الذي كان واقفًا عليه مع علمه أن تنفير صيده غير جائزٍ؛ لأنَّه ذرق على يده، فكان له طرده عن الموضع الذي يلحقه أذاه في كونه فيه، وكذلك كان عطاء يقول في معنى ذلك.
          قال ابن جُريج: قلت لعطاء: كم في بيضةٍ من بيض الحمام؟ قال: نصف درهمٍ، ويحكم فيه، فقال له إنسانٌ: بيضةٌ وجدتها على فراشي أميطها عنه؟ قال: نعم. قال: وجدتها في سهوةٍ وفي مكانٍ من البيت؟ قال: لا تمطها. فرأى عطاء إن أماط عن فراشه بيضةً من بيض حمام الحرم غير حرج، ولا لازم بإماطته إيَّاها شيء، لأنَّ مِنْ تِرْكه إيَّاها على فراشه عليه أذًى، ولم ير جائزًا إماطتها عن الموضع الذي لا أذى عليه في كونها فيه، فكذلك كان فعل عمر في إطارته الحمامة التي ذرقت على يده من الموضع الذي كانت واقعةً عليه.
          وقوله: (لا يُخْتَلَى خَلاهَا) يريد لا يقطع عشبها، والخلى _مقصورٌ_ كلُّ كلأٍ رطبٍ، فإذا يبس كان حشيشًا، قال الطَبريُّ: واتَّفق الفقهاء أنَّ نهيه ◙ عن اختلاء خلاها هو ممَّا ينبت فيه ممَّا أنبته الله ولم يكن لآدميٍّ فيه صنع، فأمَّا ما أنبته الآدميُّون فلا بأس باختلائه.
          واختلف السَّلف في الرَّعي في خلاها، هل هو داخل في نهيه ◙ عن الاختلاء أم لا؟ فقال بعضهم: ذلك غير داخل في النَّهي عن الاختلاء، ولا بأس بالرَّعي فيها. روي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وابن أبي ليلى، قالوا: لا بأس بالرَّعي في الحرم إلَّا أنَّه لا يَخبِط.
          قال المؤلِّف: وحكى ابن المنذر مثله عن أبي يوسف والشَّافعيِّ. قال الطَّبريُّ: وعلَّة هذه المقالة أنَّ النَّهي إنَّما ورد في الاختلاء دون الرَّعي فيها، والرَّاعي غير مختلٍ، لأنَّ المختلي هو الذي يقطع الخلى بنفسه.
          وقال آخرون: لا يجوز الرَّعي فيها، لأنَّ الرَّعي أكثر من الاختلاء. هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد، قالوا: لو جاز أن يرعى فيها جاز أن يحتشَّ فيه إلَّا الإذخر خاصَّة. وقال مالك: لا يحتشَّ أحد لدابَّة. واعتلُّوا بقوله ◙: (لا يُخْتَلَى خَلاهَا) واختلاؤه استهلاكٌ له وإماتةٌ، وإرعاء المواشي فيه أكثر من احتشاشه في الاستهلاك.
          فإن قيل: فقد قلتم إنَ العلماء متَّفقون / على أنَّ النَّهي من الاختلاء المراد به ما أنبته الله لم يكن لآدميٍّ فيه صنع، فكيف جوَّزتم اجتناء الكمأة، وهي ممَّا أنبته الله تعالى ولا صنع فيها لبني آدم؟ فيقال له: إنَّما أجزنا ذلك، لأنَّ الكمأة لا يقع عليها اسم شجرٍ ولا حشيشٍ، وفي إجماع الجميع على أنَّه لا بأس بشرب مياه آباره والانتفاع بترابه الدَّليل الواضح على أنَّ ما أحدث الله في حرمه مطلقٌ أخذه والانتفاع به كالكمأة، لأنَّها لا تستحقُّ اسم كلأٍ ولا شجرٍ، وإنَّما هي كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه، إذ لا أصل لها ثابت. فإن قيل: كيف ساغ للعبَّاس أن يسأل النَّبيَّ صلعم استثناء الإذخر، وهو يسمعه يحرِّم الاختلاء وقطع الشَّجر؟ قيل: في ذلك جوابان: قال المُهَلَّب: يحتمل أن يكون تحريم مكَّة خاصَّةً من تحريم الله تعالى ويكون سائر ما ذكر في الحديث من تحريم الرَّسول، فلذلك استثنى الإذخر، ولو كان من تحريم الله ما استبيح منه إذخر ولا غيره، وقد يأتي في آيةٍ وفي حديثٍ أشياء فرضٌ، ومنها سنَّةٌ، ومنها رغبةٌ، ويكون الكلام فيها كلُّها واحدٌ، قال الله تعالى: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذي الْقُرْبَى}[النحل:90]والعدل فرض، والإحسان وإيتاء ذي القربى سنن ورغائب، ومثله قوله ◙: ((إذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد)) نافلة.
          وفيها قول آخر، قيل: يحتمل أن يكون تحريم مكَّة وكلِّ ما ذكر في الحديث من تحريم الله، ويكون وجه استثنائه ◙ تحليل الإذخر دون استعلام الله تحليل ذلك، لأنَّ الله قد كان قد أعلم نبيَّه في كتابه بتحليل المحرَّمات عند الضَّرورات، فمنها أنَّ الله حرَّم الميتة والدَّم ولحم الخنزير وسائر ما في الآية وأحلَّها لعباده عند اضطرارهم إليها بقوله: {فَمَن اضُطرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المائدة:3]فلمَّا كان هذا أصلًا من أصول الشَّريعة قد أنزله الله في كتابه على رسوله، وأخبره العبَّاس أنَّ الإذخر لا غنى بالنَّاس عنه لقبورهم وبيوتهم وصاغتهم، حكم النَّبيُّ صلعم بحكم المباحات عند الضَّرورات، وهذا تأويل حسن.