شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يحل القتال بمكة

          ░10▒ باب: لا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ الرَّسُولُ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) الحديث. [خ¦1834]
          قال الطَّبريُّ: فيه الإبانة عن أنَّ مكَّة غير جائز استحلالها ولا نصب الحرب عليها لقتال أهلها بعد ما حرَّمها رسول الله إلى قيام السَّاعة، وذلك أنَّه ◙ أخبر حين فرغ من أمر المشركين بها وأنَّها لله حرمٌ، وأنَّها لم تحلَّ لأحدٍ قبله، ولا تحلُّ لأحدٍ بعده بعد تلك السَّاعة التي حارب فيها المشركين، وأنَّها قد عادت حرمتها كما كانت، فكان معلومٌ بقوله هذا أنَّها لا تحلُ لأحدٍ بعده بالمعنى الذي أحلَّت له به، وذلك محاربة أهلها وقتالهم وردِّهم عن دينهم.
          قال المؤلِّف: إن قال قائل: قد رأينا الحَجَّاج وغيره قاتل مكَّة ونصب الحرب عليها، وأنَّ القَرمطيَّ الكافر قلع الحجر الأسود منها وأمسكه سبعة عشر عامًا، فما وجه ذلك؟ قيل له: معناه بَيِّنٌ بحمد الله، وذلك أنَّ الحَجَّاج وكلَّ من نصب الحرب عليها بعد الرَّسول صلعم لم يكن ذلك مباحًا ولا حلالًا كما حلَّ للنَّبيِّ ◙ وليس قول الرَّسول: (وَقَد عَادَت حُرمَتُها كَما كانَت، ولا يحلُّ القِتَالُ بها لأحدٍ بعدي). أنَّ هذا لا يقع ولا يكون، وقد يَرِدُ ذلك، وقد أنذرَنا ◙ أنَّ ذا السُّويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حَجَرًا حَجَرًا، وإنَّما معناه أنَّ قتالها ونصب الحرب عليها حرام بعد النَّبيِّ صلعم على كلِّ أحدٍ إلى يوم القيامة، وأنَّ من استباح ذلك فقد ركب ذنبًا عظيمًا، واستحلَّ محرمًا شنيعًا.
          قال الطَّبريُّ: فإن قيل: فلو ارتدَّ مرتدٌّ بمكَّة، أو ارتدَّ قوم فيها فمنع أهلها السُّلطان من إقامة الحدِّ عليه، أيجوز للسُّلطان بها حربهم وقتالهم حتَّى يصل إلى من يجب عليه إقامة الحدِّ؟ قيل: يجوز ذلك، ولكن يجب على الإمام الاحتيال لإخراجهم من الحرم حتَّى يقيم عليهم ما أوجبه الله فيهم، والحيلة في ذلك حصار مانعيهم، والحول بينهم وبين وصول الطَّعام إليهم وما يضطرون مع فقده إلى إمكان السُّلطان منهم وممَّن لزمه حَدُّ الله تعالى حتَّى يخرج من الحرم ويقام عليه.