شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المحرم يموت بعرفة

          ░20▒ باب: الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ.
          وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبيُّ صلعم أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبيِّ صلعم بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبيُّ ◙: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، أَوْ قَالَ: في ثَوْبَيْهِ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، ولا تُحَنِّطوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي). [خ¦1849]
          وترجم له: باب سنَّة المحرمِ إذا ماتَ، وزاد فيه: (فَوَقَصَتْه نَاقَتُه وهُوَ مُحرِمٌ)
          قال المُهَلَّب: يدلُّ أنَّه لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ، لأنَّ الحجَّ من أعمال الأبدان / كالصَّلاة لا تصحُّ فيها النِّيابة عن غيره، ولو صحَّ فيها النِّيابة لأمر النَّبيُّ صلعم بإتمام الحجِّ عن هذا، كما أنَّه قد يمكن ألَّا يتبع بما بقي عليه من الحجِّ في الآخرة _والله أعلم_ لأنَّه قد بلغ جهده وطاقته ووقع أجره على الله بقوله: (فَإِنَّه يُبْعَثُ يومَ القِيامَةِ).
          قال المؤلِّف: وفيه دليل أنَّ من شرع في عمل من عمل الطَّاعات وصحَّت فيه نيَّته لله، وحال بينه وبين تمامه الموت، فإنَّ الرَّجاء قويٌّ أنَّ الله قد كتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل وتقبَّله منه، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على اللهِ}[النساء:100]أنَّه لا يُقطع على أحدٍ بعينه بهذا ولا أنَّه بمنزلة ذلك الموقوص، ولذلك قال كثير من أهل العلم: إنَّ هذا الحديث خاصٌّ في الموقوص، وإنَّ سنَّة المحرم أنَّه إذا مات يُخمَّر رأسه ويُطيَّب ويُفعَل به ما يُفعَل بالميِّت الحلال، ولا يُجنَّب ما يجتنبه المحرم، هذا قول مالكٍ وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعيِّ، وبذلك أخذ ابن عمر حين توفِّي ابنه بالجحفة وهو محرمٌ، خمَّر رأسه ووجهه وقال: لولا أنَّا حُرمٌ لطيَّبْنَاهُ. لأنَّه لم يقطع ابن عمر أنَّ ابنه بمنزلة الموقوص الذي أخبر ◙ أنَّه يبعث يوم القيامة ملبِّيًا. وبهذا قالت عائشة، ولم يأخذوا بحديث الموقوص، وأخذ به الشَّافعيُّ وقال: لا يُخمَّر رأس المحرم ولا يُطيَّب اتِّباعًا لظاهر حديث ابن عبَّاس. وهو قول عثمان وعليِّ بن أبي طالبٍ وابن عبَّاسٍ.
          واحتجَّ الذين رأوا الحديث خاصًّا في الموقوص بعينه أن من مات بعده في حال الإحرام، لا يعلم هل يُقبل حَجُّه؟ وهل يبعث يوم القيامة ملبيًّا أم لا؟ ولا يُقطع على غير ذلك إلَّا بوحيٍ، فافترقا في المعنى، واحتجَّ مالك كذلك فقال: إنَّما يعمل الرَّجل ما دام حيًّا، فإذا مات انقطع عمله. قال الأَصِيليُّ: ثبت الخبر عن الرَّسول صلعم أنَّه قال: ((إذا مات الرَّجل انقطع عمله إلَّا من ثلاثٍ: ولدٍ يدعو له، أو علمٍ ينتشر عنه، أو صدقةِ موقوفةِ بعدهُ)).