شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تزويج المحرم

          ░12▒ باب: تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ. /
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ). [خ¦1837]
          اختلفت الآثار في تزويج رسول الله ميمونة، فروى ابن عبَّاس أنَّه تزوَّجها وهو محرمٌ، وروى أنَّه تزوَّجها وهو حلالٌ، والروايات في ذلك متواترةٌ عن أبي رافع مولى النَّبيِّ صلعم وعن سليمان بن يسارٍ وهو مولاها، وعن يزيد الأصمِّ وهو ابن أختها.
          فمنها حديث ميمون بن مِهْرَان، عن يزيد بن الأصمِّ قال: حدَّثتني ميمونة بنت الحارث: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم تزوَّجها وهو حلالٌ)) قال يزيد: كانت خالتي، وخالة ابن عبَّاس.
          وجمهور علماء المدينة يقولون: لم ينكح رسول الله ميمونة إلَّا وهو حلالٌ.
          روى مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسارٍ: ((أنَّ رسولَ اللهِ بعثَ أبا رافعٍ مولاهُ ورجلًا مِنَ الأنصارِ يزوِّجاه ميمونةَ بنتَ الحارثِ، ورسولُ اللهِ بالمدينةِ قبلَ أنْ يخرجَ)).
          واختلف الفقهاء في ذلك من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أنَّ المحرم لا يَنكح ولا يُنكح غيره، فإن فعل فالنِّكاح باطلٌ، روي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وعليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عمر. وبه قال مالكٌ واللَّيث والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد. واحتجُّوا أيضًا بحديث مالكٍ، عن نبيه بن وهبٍ، عن أَبَان بن عثمان، عن عثمان بن عفَّان قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((لا يَنكِح المحرمُ ولا يُنكِح ولا يخطب)).
          وذهب الثَّوريُّ والكوفيُّون إلى أنَّه يجوز للمحرم أن يَنكَح ويُنكِح غيره، وهو قول ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وأنس بن مالكٍ، ذكره الطَّحاويُّ، وروي عن القاسم بن محمَّدٍ والنَّخعيِّ، وحجَّتهم حديث ابن عبَّاسٍ وقالوا: الفُروج لا تحلُّ إلَّا بنكاحٍ أو بشراءٍ، والأُمَّة مجمعة على أنَّ المحرم يملك ذلك بشراءٍ وهبةٍ وميراثٍ ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاحٍ لا يبطل ملكه قياسًا على الشِّراء، عن الطَّبريِّ، قال: والصَّواب عندنا أنَّ نكاح المحرم فاسدٌ يجب فسخه لصحَّة الخبر عن عثمان عن النَّبيِّ صلعم بالنَّهي عن ذلك، وخبر ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم تزوَّج ميمونة وهو محرمٌ. فقد عارضه فيه غيره من الصَّحابة وقالوا: تزوجَّها وهو حلالٌ، فلم يكن قول القائلين: تزوَّجها وهو محرمٌ أولى من قول القائلين تزوَّجها وهو حلالٌ.
          وقد قال سعيد بن المسيِّب: وَهِمَ ابن عبَّاسٍ وإن كانت(1) بخالته ما تزوَّجها إلَّا بعد ما أحلَّ، وحدَّثني يعقوب، حدَّثني ابن عليَّة، حدَّثني أيُّوب قال: أُنبِئت أنَّ الاختلاف إنَّما كان في نكاح رسول الله ميمونة: أنَّ رسول الله بعث العبَّاس بين يديه ليُنكحها إيَّاه فأنكحه. قال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: بعدما أحرم.
          وقد ثبت أن عُمر وعليًّا وزيدًا فرَّقوا بين محرمٍ نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلَّا عن صحَّةٍ ويقينٍ. وأمَّا قياسهم النِّكاح على الشِّراء، فإنَّ الذين أفسدوا نكاح المحرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فتلزمهم المقاييس والنَّظائر والأشباه، وإنَّما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النَّبيِّ صلعم بالنَّهي عن ذلك، فالذي ينبغي لمخالفيهم أن يناظروهم من جهة الخبر، فإن ثبت لزمهم التَّسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من الأمثال والأشباه، فأمَّا والخبر ثابتٌ بالنَّهي عن النِّكاح فلا وجه للمقايسة فيه.


[1] في (ص): ((فإن كان)) والمثبت من المطبوع.