شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة

          ░22▒ بَاب: الْحَجِّ وَالنَّذرِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلى النَّبيِّ ◙، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ). [خ¦1852]
          اختلف العلماء في الرَّجل يموت وعليه حجَّة الإسلام أو حجَّةُ نذرٍ، فقالت طائفة: يجوز أن يُحجَّ عنه وإن لم يُوصِ بذلك، ويُجزئه. روي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وأبي هريرة، وهو قول عطاءٍ وابن سيرين ومكحولٍ وسعيد بن المسيِّب وطاوس، وبه قال الأوزاعيُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأبو ثور.
          وقالت طائفة: لا يَحجَّ أحدٌ عن أحدٍ، روي ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمَّد والنَّخعيِّ.
          وقال مالكٌ واللَّيثُ: لا يَحجَّ أحدٌ عن أحدٍ إلَّا عن ميِّت لم يحجَّ حجَّة الإسلام ولا ينوب عن فرضه. فإن أوصى بذلك الميِّت، فعند مالك وأبي حنيفة يُخرج من ثلثه. وهو قول النَّخَعِيِّ. وعند الشَّافعيِّ يخرج من رأس ماله.
          وحجَّة أهل المقالة الأولى حديث ابن عبَّاسٍ قالوا: ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم شبَّه الحجَّ بالدَّيْن، يجوز أن يقضيه عنه غيرهُ، أوصى بذلك أو لم يُوص، لأنَّ الرَّسول صلعم لم يشترط في إجازته ذلك، إن كان من أمِّها لها فذلك أمرها(1)، ولو كان ذلك غير قاضٍ عن أمِّها لكان ◙ قد أعلمها أنَّ ذلك غير جائز، إلَّا أن تحجَّ عنها بأمرها فلمَّا أعلمها ◙ أنَّ ذلك قضاءٌ عنها صحَّ أنَّ ذلك مجزئٌ عمَّن حجَّ عنه ممَّن عجز عن أدائه في حياته، وسبيل ذلك قضاء دينٍ على رجلٍ أنَّ ذلك براءةٌ للمقضى عنه بأمر الله، كان عليه أو بغير أمره، وتشبيه الرَّسول صلعم ذلك بالدَّيْن يدلُّ أنَّ ذلك عليه من جميع ماله ثلثه كسائر الدُّيون، قاله الطَّبريُّ، وذكر ابن المنذر أنَّ عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرَّحمن بعد موته.
          وحجَّة من منع الحجَّ عن غيره أنَّ الحجَّ عمل الإنسان ببدنه، وقد أجمعوا أنَّه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ فكذلك الحجُّ. قال ابن القصَّار: والدَّليل على أنَّه لا يَحجُّ أحدٌ عن أحدٍ قوله ◙: (رَأَيْتِ لَوْ كَانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيه؟) إنَّما سألها: هل كنت تفعلين ذلك تطوُّعًا؟ لأنَّه لا يجب عليها أن تقضي دين أمِّها إذا لم يكن لها تَركَة، لأنَّ الحجَّ من عمل الأبدان وهي عِبَاْدَة لا تصحَّ النِّيابة مع القدرة ولا مع العجز في حال الحياة فلم يصحَّ بعد الممات، دليله الصَّلاة.
          وأمَّا قول البخاريِّ في التَّرجمة: (وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ) وأدخل حديث المرأة التي سألت النَّبيَّ صلعم عن ذلك، فكان ينبغي أن يقول: والمرأة تحجُّ عن المرأة. فالجواب عن ذلك أنَّ النَّبي صلعم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرِّجال والنِّساء، وهو قوله: (اقْضُوا اللهَ)، وهذا يصحُّ للمذكَّر والمؤنَّث، ولا خلاف في حجِّ الرَّجل عن المرأة، والمرأة عن الرَّجل، إلَّا الحسن بن صالح، وسأذكر قوله في الباب بعد هذا إن شاء الله.


[1] في (ز): ((أمر)) والمثبت من المطبوع.