شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاغتسال للمحرم

          ░14▒ باب: اغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ.
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: (أنَّهما اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ، فَقَالَ عبدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلى أبي أَيُّوبَ الأنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَستَترُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: عبدُ اللهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبدُ اللهِ بْنُ عَبَّاس، يسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ على الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ على رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، فَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ يَفْعَلُ). [خ¦1840]
          اختلف العلماء في غسل المحرم رأسه، فذهب أبو حنيفة والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق إلى أنَّه لا بأس بذلك، ورويت الرُّخصة في ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وابن عبَّاسٍ وجابرٍ، وعليه الجمهور، وحجَّتهم حديث أبي أيُّوب، وكان مالكٌ يكره ذلك للمحرم، وذكر أنَّ عبد الله بن عُمَر كان لا يغسل رأسه إلَّا من الاحتلام.
          قال مالك: فإذا رمى جمرة العقبة فقد حلَّ له قتل القمل وحلق الشَّعر وإلقاء التَّفث، وهو الذي سمعته من أهل العلم. وروي عن سعد بن عُبَاْدَة مثل قول مالكٍ، وكان أشهب وابن وهبٍ يتغاطسان في الماء وهما محرمان مخالفةً لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه في الماء أطعم شيئًا من طعامٍ خوفًا من قتل الدَّوابِّ، ولا يجب الفداء إلَّا بيقين، وغير ذلك استحبابٌ، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصبَّ المحرم على رأسه للحرِّ يجده.
          قال أشهب: غمس المحرم رأسه في الماء وما يخاف في الغمس ينبغي أن يخاف مثله في صب الماء على الرَّأس من الحرِّ. وقد قال عُمَر بن الخطَّاب ليعلي بن منبِّه حين كان عمر يغسل رأسه ويعلى يصبُّ عليه: اصبب فلن يزيده الماء إلَّا شَعَثًا، يعني: إذا لم يغسل بغير الماء، ألا ترى فعل أبي أيُّوب حين صبَّ على رأسه الماء حركه بيديه، ولم ير ذلك ممَّا ذهب الشَّعَث، ومثله قوله ◙ لعائشة: ((انقضي رأسك في غسلك وامتشطي)) أي: امشطيه بأصابعك وخلِّليه بها، فإنَّ ذلك لا يذهب الشَّعث، وإنَّ شعثه لا يمنعك من المبالغة في غسل رأسك، لأنَّ الماء / لا يزيده إلَّا شعثًا. فابن عبَّاسٍ أفقه من المسور لموافقته النَّبيَّ صلعم وأصحابه، قاله أبو عبد الله بن أبي صُفرة.
          وأمَّا إن غسل رأسه بالخَطمِيِّ والسِّدر، فإنَّ الفقهاء يكرهون ذلك، هذا قول مالك وأبي حنيفة والشَّافعيِّ، وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية، وقال أبو ثور: لا شيء عليه. وقد رخَّص عطاءٌ وطاوس ومجاهدٌ لمن لُبِّد رأسه فشقَّ عليه الحلق أن يغسله بالخَطمِيِّ حتَّى يلين، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
          قال ابن المنذر: وذلك جائزٌ، لأنَّ الرَّسول صلعم أمرهم أن يغسلوا الميِّت المحرم بماءٍ وسدرٍ، وأمرهم أن يجنِّبوه ما يجتنب الحيُّ، فدلَّ ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسِّدر، والخطميُّ في معناه. وأجاز الكوفيُّون والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق للمحرم دخول الحمَّام.
          وقال مالك: إن دخل الحمَّام فتدلَّك وأنقى الوسخ فعليه الفدية، وقال ابن وهب: القرنان هما الرِّجْلان اللَّذان في جنبتي البئر.
          وفيه من الفقه: أنَّ الصَّحابة إذا اختلفوا لم يكن الحجَّة في قول أحدٍ منهم إلَّا بدليلٍ يجب التَّسليم له من الكتاب أو السُّنَّة، كما نزع أبو أيُّوب بالسُّنَّة، ففَلَج ابن عبَّاسٍ المسور.
          وفيه من الفقه: التَّناظر في المسائل والتَّحاكم فيها إلى الشُّيوخ العالمين بها.
          وقوله في الترجمة: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا) يعني: حكَّ جلده إذا أكله(1).
          وقال عطاء: يحكُّ الحبَّ في جلده وإن أدماه.


[1] قوله: ((أكله)) ليس واضحًا في (ص) والمثبت من المطبوع.