شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من نذر المشي إلى الكعبة

          ░27▒ باب: مَنْ نَذَرَ أَنْ يمَشْيَ إلى الْكَعْبَةِ.
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ). [خ¦1865]
          وفيه: عُقْبَةُ قَالَ: (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلى بَيْتِ اللهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا الرَّسولَ صلعم، فَقَالَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ(1)). [خ¦1866]
          أخذ أهل الظَّاهر بحديث أنسٍ وعقبة بن عامرٍ وقالوا: من عجز عن المشي فلا هدي عليه اتِّباعًا للسُّنَّة في ذلك، قالوا: ولا يثبت شيء في الذِّمَّة إلَّا بيقين، وليس المشي ممَّا يوجب نذرًا، لأنَّ فيه تعب الأبدان، وليس الماشي في حال مشيه في حرمة إحرام، فلم يجب عليه المشي ولا بدل منه.
          وأمَّا سائر الفقهاء فإنَّ لهم في هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذه:
          الأوَّل: روي عن عليِّ بن أبي طالبٍ وابن عمر أنَّ من نذر المشي إلى بيت الله فعجز أنَّه يمشي ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى. وهو قول عطاءٍ والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشَّافعيُّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذلك إن ركب وهو غير عاجزٍ، قالوا: ويكفِّر يمينه لحنثه كما حكاه الطَّحاويُّ عنه، وقال الشَافعيُّ: الهدي في هذه المسألة احتياطٌ من قِبَل أنَّه من لم يُطِقْ شيئًا سقط عنه، وحجَّتهم ما رواه هَمَّام، عن قَتادة، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ، عن عقبة ابن عامرٍ: أنَّ أخته نذرت المشي إلى بيت الله، فسأل الرَّسولَّ صلعم عن ذلك، فقال: ((إنَّ اللهَ لغنيٌّ عن نذرِ أختِكَ، فلتركَبْ ولتُهدِ)).
          والقول الثَّاني: يعود ثمَّ يحجُّ مرَّةً أخرى، ثمَّ يمشي مَا ركبَ ولا هَدْي عليه، هذا قول ابن عمر، ذكره مالكٌ في «الموطَّأ»، وروي عن ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير والنَّخعيِّ وسعيد بن جبيرٍ.
          والقول الثَّالث: يعود فيمشي ما ركب وعليه الهدي، روي عن ابن عبَّاسٍ أيضًا، وروي عن سعيد بن المسيِّب والنَّخعيِّ، وهو قول مالكٍ، جمع عليه الأمرين: المشي والهدي، احتياطًا لموضع تفريقه المشي الذي كان يلزمه في سفرٍ واحدٍ، فجعله في سفرين قياسًا على التَّمتُّع والقِران، والله أعلم.
          قال المؤلِّف: ويمكن أن يُتأوَّلَ حديثُ أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاء الأمصار، حتَّى لا ينفرد أهل الظَّاهر بالقول بهما وذلك أنَّ في نصِّهما ما يبيِّن المعنى فيهما، وهو أن الرَّسول صلعم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال: (إِنَّ اللهَ / لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ) فبان واتَّضح أنَّه كان غير قادرٍ على المشي وممَّن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شيءٍ سقط عنه.
          والعلماء متَّفقون أنَّ الوفاء بالنَّذر إنَّما يكون فيما هو لله طاعة، والوفاء به بِرٌّ، ولا طاعة ولا بِرَّ في تعذيب أحدٍ نفسهَ، فكأنَّ هذا النَّاذر نذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان في معنى أبي إسرائيل الذي نذر ليقومنَّ في الشَّمس ولا يستظلَ ويصوم ذلك اليوم، فأمره ◙ بكفَّارةٍ، وقد روي في حديث عقبة بن عامرٍ ما يدلُّ أنَّ أخته كانت غير قادرةٍ على المشي، فلذلك لم يأمرها ♀ بالهَدْي.
          روى الطَّبريُّ قال: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن بَزِيعٍ، حدَّثنا الفضيل بن سليمان، حدَّثنا محمَّد بن أبي يحيى الأسلميُّ، حدَّثنا إسحاق بن سالمٍ، عن عقبة بن عامرٍ أنَّ أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة، وهي امرأة ثقيلة، والمشي يشقُّ عليها، فذكر ذلك عقبة للنَّبيِّ ◙ فقال: ((إنَّ اللهَ لا يصنعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، مُرها فلتركَبْ))، فصحَّ التَّأويل أنَّها نذرت وهي في حال من لا يُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبي إسرائيل، والعلماء مجمعون على سقوط المشي على من لا يقدر عليه، فسقوط الهَدْي أَحْرَى، وإن كان مالكٌ يستحبُّ الهدي لمن عجز عن المشي.
          قال الطَّحاويُّ: ونظرنا في قول من قال: ليس الماشي في حرمةِ إحرامٍ فرأينا الحجَّ فيه الطَّواف بالبيت والوقوف بعرفة وجمعٍ، وكان الطَّواف منه ما يفعله الرَّجل في حال إحرامه وهو طواف الزِّيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحلَّ من إحرامه، وهو طواف الصَّدْر، فكان ذلك من أسباب الحجِّ قد أريد أن يفعله الرَّجل ماشيًا، وكان إن فعله راكبًا مقصِّرًا وجعل عليه الدَّم، هذا إذا فعله من غير علَّةٍ، وإن فعله من علَّةٍ فالنَّاس مختلفون في ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّد: لا شيء عليه. وقال غيرهم: عليه دمٌ. وهو النَّظر عندنا، لأنَّ العلل إنَّما تُسقط الآثام في انتهاك المحرَّمات ولا تُسقط الكفَّارات، فحلق الرَّأس في الإحرام إن حلقه من غير عذرٍ عليه الإثم والكفَّارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفَّارة ولا إثم عليه، فكذلك المشي الذي قبل الإحرام لمَّا كان من أسباب الإحرام، كان حكمه حكم المشي الواجب في الإحرام يجب على تاركه الدَّم.


[1] في (ص): ((أو لتركب)) والمثبت من المطبوع.