عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب نفخ الصور
  
              

          ░43▒ (ص) باب نَفْخِ الصُّورِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان نفخ الصُّورِ؛ وهو بِضَمِّ الصاد وسكون الواو، ورُوِيَ عن الحسن أنَّهُ قرأها بفتح الواو جمع (صورة)، وتأوَّله على أنَّ المراد النفخ في الأجساد لِتُعاد إليها الأرواح، وقال أبو عُبَيدة في «المجاز»: يقال: «الصُّوْر» يعني بسكون الواو جمع «صُورة» كما يقال: سُور المدينة، جمع «سورة»، وحكى الطَّبَريُّ عَن قومٍ مثله، وزاد: كـ«الصُّوف» جمع «صُوفة»، ورُدَّ على هذا بأنَّ «الصُّور» اسم جنسٍ لا جمع، وقال الأزهريُّ: إنَّهُ خلاف ما عليه أهل السنَّة والجماعة، ويأتي تفسيره الآن.
          (ص) وَقَالَ مُجاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ البُوقِ.
          (ش) هذا التعليق وصله الفِرْيَابيُّ مِن طريق ابن أبي نَجِيحٍ، عَن مجاهدٍ قال في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}[الكهف:99] قال: كهيئة البوق، وقال الجوهريُّ: البوق الذي يُزْمَر به، وهو معروف، ويقال: إنَّ الصُّور اسم القَرن بلغة أهل اليمن، قيل: كيف شبَّه الصور بالقرن الذي هو مذموم؟ وَأُجِيْبَ: لا مانع مِن ذلك، ألا ترى كيف شبَّه صوت الوحي بصلصلة الجرس، مع ورود النهي فيه عَنِ استصحابه؟
          فَإِنْ قُلْتَ: عمَّاذا خُلِقَ الصُّور؟
          قُلْت: روى أبو الشيخ في كتاب «العَظَمة» مِن طريق وهب بن مُنَبِّه مِن قولِه قال: خلق الله الصور مِن لؤلؤة بيضاء في صَفاء الزجاجة، ثُمَّ قال للعرش: خُذ الصور فتعلَّق به، ثُمَّ قال: كُن، فكان إسرافيلُ ◙ ، فأمره أن يأخذ الصور، فأخذه وبه ثُقَبٌ بعدد كلِّ روح مخلوقة ونفس منفوسة.... فذكر الحديث، وفيه: ثُمَّ يجمع الأرواح كلَّها في الصور، ثُمَّ يأمر الله ╡ إسرافيل ◙ فينفخ فيه، فيدخل كلُّ روح في جسدها، وأخرج أبو داود والتِّرْمِذيُّ _وحَسَّنَه_ والنَّسائيُّ وابن حِبَّان _وصحَّحه_ والحاكم مِن حديث عبد الله بن عَمْرو بن العاص ☻ قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبِيِّ صلعم فقال: ما الصُّور؟ قال: «قرن يُنفَخ فيه».
          (ص) {زَجْرَةٌ} صَيْحَةٌ. /
          (ش) أشار به إلى تفسير قوله ╡ : {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[الصافات:19] وَفَسَّر (الزجرة) بقوله: (صَيْحَةٌ) وهو مِن تفسير مجاهد أيضًا، وصله الفِرْيَابيُّ أيضًا مِن طريق ابن أبي نَجِيح عنه.
          (ص) قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {النَّاقُورِ} الصُّورُ.
          (ش) أراد به أنَّ ابن عَبَّاس ☻ فَسَّر {النَّاقُور} في قوله ╡ : {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8] بأنَّه الصور، وصله الطَّبَريُّ وابن أبي حاتم مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في الآية المذكورة، ومعنى {نُقِرَ} نُفِخَ.
          (ص) {الرَّاجِفَةُ} النَّفْخَةُ الأُولى، و{الرَّادِفَةُ} النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ.
          (ش) هذا مِن تفسير ابن عَبَّاسٍ أيضًا في قوله ╡ : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}[النازعات:6-7] أي: النفخة الأولى تتبعها النفخة الثانية، وصله الطَّبَريُّ وابن أبي حاتم أيضًا بالسند المذكور، وبه فَسَّر الفَرَّاء في «معاني القرآن»، وعَن مجاهد: {الراجفة} الزلزلة، و{الرَّادِفَةُ} الدَّكدكة، أخرجه الفِرْيَابيُّ وغيره عنه، وقال الكَرْمانيُّ: واختُلِفَ في عددها، والأصحُّ أنَّها نفختان، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68] والقول الثاني: إنَّها ثلاث نفخات؛ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماء والأرض، بحيث تذهل كلُّ مرضعة عمَّا أرضعت، ثُمَّ نفخة الصعق، ثُمَّ نفخة البعث، فَأُجِيْبَ: بأنَّ الأُوْلَيَيْن عائدتانِ إلى واحدة، فزعوا إلى أن صَعِقُوا، والمشهور أنَّ صاحب الصور إسرافيل ◙ ، ونقل فيه الحَليميُّ الإجماع.
          فَإِنْ قُلْتَ: جاء أنَّ الذي ينفخ في الصور غير إسرافيل، فروى الطبرانيُّ في «الأوسط» عَن عبد الله بن الحارث: كنَّا عند عائشة فقالت: يا كعب؛ أخبرني عن إسرافيل...، فذكر الحديث، وفيه: ومَلَك الصُّور جاثٍ على إحدى رُكبتيه، وقد نصب الأخرى، يلتقم الصور مُحْنِيًا ظَهْرَه، شاخصًا ببصره ينظر إلى إسرافيل، وقد أُمِرَ إذا رأى إسرافيل قد ضَمَّ جناحَيه أن ينفخ في الصور، فقالت عائشة: سمعته مِن رسول الله صلعم .
          قُلْت: فيه زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
          فَإِنْ قُلْتَ: يؤيِّد الحديث المذكور ما أخرجه هَنَّاد بن السَّريِّ في «كتاب الزهد»: ما مِن صباح إلَّا وملكان موكَّلان بالصور، ينتظران متى يؤمران فينفخان؛ يعني: في الصور.
          قُلْتُ: هذا موقوفٌ على عبد الرحمن بن أبي عَمْرة.
          فَإِنْ قُلْتَ: رُوِيَ عن الإمام أحمد مِن طريق سُلَيمان التَّيميِّ عَن أبي [هُرَيرة] عن النَّبِيِّ صلعم _أو عَن عبد الله بن عَمْرو عَنِ النَّبِيِّ صلعم _ قال: «النافخان في السماء الثانية، رأس أحدهما بالمشرق ورِجلاه بالمغرب _أو قال بالعكس_ ينتظران متى يُؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا» ورجاله ثقاتٌ، وأخرجه الحاكم مِن حديث عبد الله بن عَمْرو بغير شكٍّ، وروى ابن ماجةَ والبَزَّار مِن حديث أبي سعيدٍ رفعه: «إنَّ صاحبَي الصُّور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران»، وقال بعض العلماء: الملَك الذي إذا رأى إسرافيلَ ضمَّ جناحيه _في حديث عائشة_ ينفخ النفخة الأولى، وإسرافيل ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث.