عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: «هذا المال خضرة حلوة»
  
              

          ░11▒ (ص) باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ».
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ ذكر قول النَّبِيِّ صلعم : «هَذَا المَالُ...» أشار به إلى المال الذي يتصرَّف فيه الناس.
          قوله: (خَضِرَةٌ) التاء فيه للمبالغة، أو باعتبار أنواع المال، وكذا الكلام في (حُلْوَةٌ).
          (ص) وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عِمْرَان:14].
          (ش) سِيقت هذه الآية كلُّها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية>، وفي رواية أبي زيدٍ المَرْوَزِيِّ: <{حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية> وكانت رواية الإسماعيليِّ مثل رواية أبي ذرٍّ، وزاد: (إلى / قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}).
          قوله: ({زُيِّنَ لِلْنَّاسِ}) أي: في هذه الدنيا مِن أنواع الملاذِّ ({مِنَ النِّسَاءِ}) فبدأ بهنَّ لأنَّ الفتنة بهنَّ أشدُّ؛ لقوله صلعم في «الصحيح»: «ما تركتُ بعدي فتنة أضرَّ على الرجال مِنَ النساء» فإذا كان القصدُ بهنَّ الإعفاف وكثرة الأولاد؛ فهذا مطلوبٌ، مرغوبٌ فيه، مندوبٌ إليه؛ لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الدنيا متاعٌ، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة...» الحديث، ثُمَّ ذكر البنين، فلا يخلو حُبُّهم إمَّا أن يكون للتفاخر والزينة فهو داخلٌ فيها، وإمَّا أن يكون لتكثير النسل وتكثير أمَّة مُحَمَّدٍ صلعم ، فهذا محمودٌ ممدوح؛ كما في الحديث: «تزوَّجوا الوَدود الوَلود؛ فإنِّي مكاثر بكم الأُمَم يوم القيامة».
          قوله: ({وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ}) اختلف المفسِّرون في مقدار القنطار على أقوال؛ فقال الضَّحَّاك: المال الجزيل، وقيل: ألف دينار، وقيل: ألف ومئتا دينار، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وقيل: أربعون ألفًا، وقيل: ستُّون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وقيل: ثمانون ألفًا، وروى الإمام أحمد مِن حديث أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلعم : «القنطارُ اثنا عشر ألف أوقيَّة، كلُّ أوقيَّة خيرٌ مِمَّا بين السماء والأرض»، ورواه ابن ماجه أيضًا، وروى ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي: حَدَّثَنَا عارم عَن حمَّاد، عَن سعيد الجُرَيْريِّ، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد الخُدْريِّ ☺ قال: القنطار ملء مَسْك الثور ذهبًا، ورُوِيَ عن حمَّادينِ مرفوعًا، والموقوف أصحُّ، وعن سعيد بن جُبَير: القنطار مئة ألف دينار.
          قوله: ({الْمُقَنْطَرَةِ}) مبنيَّة مِن لفظ (القِنطار) للتوكيد؛ كقولهم: ألفٌ مؤلَّفة، وبَدْرة مُبَدَّرة.
          قوله: ({وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}) أي: المُعَلَّمة ({وَالْأَنْعَامِ}) الأزواج الثمانية.
          قوله: ({وَالْحَرْثِ}) بمعنى الأراضي المتَّخدة للغراس والزراعة، وروى أحمد مِن حديث سُوَيْد بن هُبَيْرة عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: «خيرُ مال امرئٍ مُهرةٌ مأمورة، أو سكَّة مأبورة» (المأمورة) الكثيرة النسل، و(السِّكَّة) النخل المُصطفُّ، و(المأبورة) الملقَّحة.
          قوله: ({ذَلِكَ}) أي: المذكورُ ({مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}) أي: إِنَّما هذا زهرةُ الحياة الدنيا وزينتُها الفانية الزائلة.
          قوله: ({وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}) أي: حسنُ المَرجِعِ والثواب.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ.
          (ش) أي: قال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ في الآية المذكورة: (إنَّا لَا نَسْتَطِيْعُ) أي: لا نقدر (إلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا) أي: ممَّا حصل لنا مِمَّا في آية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}[آل عِمْرَان:14] ثُمَّ لمَّا رأى أنَّ فتنة المال والغنى مسلَّطة على مَن فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له، ولشهواتِ الدنيا في نفوسِ العباد؛ دعا الله تعالى بقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ) لأنَّ مَن أخذ المال مِن حقِّه ووضعه في حقِّه؛ فقد سَلِمَ مِن فتنته.
          وهذا الأثرُ وصله الدَّارَقُطْنيُّ في «غرائب مالك» مِن طريق إسماعيل بن أبي أُوَيس عَن مالكٍ عن يحيى بن سعيدٍ _هو الأنصاريُّ_: أنَّ عُمَر بن الخَطَّاب أُتِيَ بمالٍ مِنَ المشرق يقال له: نَفل كسرى، فأمر به فصُبَّ وغُطِّيَ، ثُمَّ دعا الناس فاجتمعوا، ثُمَّ أمر به فكُشف عنه؛ فإذا هو حُلِيُّ كثير وجوهر ومتاع، فبكى عمرُ وحمِدَ الله ╡ ، فقالوا: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين؟ هذه غنائم غنمها الله تعالى لنا، ونزَعها مِن أهلها، فقال: ما فُتِحَ مِن هذا على قومٍ إلَّا سفكوا دماءهم، واستحلُّوا حرمتهم، قال: فحدَّثني زيد بن أسلم أنَّهُ بقيَ مِن ذلك المال مناطق وخواتم، فرُفِع، فقال له عبد الله بن أرقم: حَتَّى متى تحبسه لا تقسمه؟ قال: بلى؛ إذا رأيتَني فارغًا فآذنِّي به، فلمَّا رآه فارغًا بسَطَ شيئًا في حشِّ نخلة، ثُمَّ جاءه به في مِكْتَل فصبَّه، فكأنَّه استكثره، ثُمَّ قال: اللهمَّ أنتَ قُلْت: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}[آل عِمْرَان:14] فتلا الآية حَتَّى فرغ منها، ثُمَّ قال: لا نستطيع إلَّا أن نحبَّ ما زيَّنت لنا، فقِنِي / شَرَّه، وارزُقْنِي أن أُنفقَه في حقِّك، فما قام حَتَّى ما بقيَ منه شيء، وهذا التعليق قد سقَطَ في رواية أبي زيدٍ المَرْوَزِيِّ.