عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب في الأمل وطوله
  
              

          ░4▒ (ص) بابُ فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان إلهاء الأمل عَنِ العمل، والأملُ مذمومٌ لجميع الناس إلَّا العلماء، فلولا أمَلُهم وطولُه لَما صنَّفوا ولما ألَّفوا، وقد نبَّه عليه ابن الجوزيِّ:
وآمالُ الرِّجالِ لهُم فضُوح                     سِوى أمَلِ المصنِّف ذِي العُلومِ
          والفرق بين الأمل والتمنِّي: أنَّ الأمل ما يُقدِّم لسبب، والتمنِّي بخلافه، وقال بعض الحكماء: الإنسان لا ينفكُّ عَنِ أمل، فإن فات الأمل عوَّل على التمنِّي، وقيل: كثرة التمنِّي تُخلِق العقل، وتُفسِد الدين، وتطرد القناعة، وقال الشاعر:
اللهُ أَصْدَقُ وَالآَمَالُ كَاذِبَةٌ                     وُجُلُّ هَذا المُنَى فِي الصَّدْرِ وَسْوَاسُ
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عِمْرَان:185] وَقَوْلِهِ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:3].
          (ش) هاتان آيتان؛ الأولى: مسوقةٌ بتمامها في رواية كريمة، وفي رواية النَّسَفِيِّ هكذا: <{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية> والثانية: في رواية كريمة [وغيرها مسوقة إلى آخرها، وفي رواية أبي ذرٍّ هكذا: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الآية، وبين الآيتين] سقط لفظ (قوله) في رواية النَّسَفِيِّ، وقال الكَرْمانيُّ: وجهُ مناسبة الآية الأولى بالترجمة صدرُها؛ وهو قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أو عجُزُها؛ وهو: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهذا يبيِّن أنَّ متعلَّق الأمل ليس بشيءٍ.
          قوله: ({فَمَنْ زُحْزِحَ}) أي: أُبعِدَ.
          قوله: ({فَازَ}) أي: نجا.
          قوله: ({ذَرْهُمْ}) الأمر فيه للتهديد؛ أي: ذَرِ المشركين يا مُحَمَّد ({يَأْكُلوا}) في هذه الدنيا ({وَيَتَمَتَّعُوا}) مِن لذَّاتها إلى أَجَلِهم الذي أُجِّلَ لهم، وفيه زجرٌ عَنِ الانهماك في ملاذ الدنيا.
          قوله: ({وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}) أي: يُشْغِلُهم عَنِ عمل الآخرة.
          (ص) وَقَالَ عَلِيٌّ ☺ : ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ.
          (ش) أي: قال عَلِيُّ بن أبي طالبٍ، وهكذا وقع في بعض النُّسَخ، ومطابقته للترجمة تُؤخَذ مِن أوَّله؛ لأنَّ الدنيا لمَّا كانت مدبرة فالأمل فيها مذموم، ومن كلام عليٍّ هذا أخذ بعض الحكماء قوله: الدنيا مُدبِرة، والآخرة مُقبِلة، فعجبٌ لمن يُقبِل على المدبِرة، ويُدبِر عَنِ المُقبِلة، وقال صاحب «التوضيح»: رَوَيْنَا في «كتاب أبي اللَّيث السَّمَرْقَنْديِّ ☼»: قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «صلاحُ أَوَّل هذه الأمَّة بالزهد واليقين، ويهلك آخِرُها بالبخل والأمل».
          قُلْت: روى هذا الحديث عبدُ الله بن عَمْرو رفعه، أخرجه الطبرانيُّ وابن أبي الدنيا، وأَثَرُ عليٍّ ☺ أخرجه ابن المبارك في «رقائقه» ورواه نُعَيم بن حَمَّاد عن سُلَيمان بن خلَّاد: حَدَّثَنَا سفيان عن زُبَيد الياميِّ عَن مُهاجِر العامِريِّ عنه.
          قوله: (فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ) قيل: اليوم ليس عملًا بل فيه العمل، ولا يمكن تقدير (في) وإلَّا وجب نصب (عمل)، وأُجِيْبَ بأنَّه جعله نفس العمل مبالغة؛ كقولهم: أبو حنيفة فِقْهٌ، ونهارُه صائمٌ.
          قوله: (وَلَا حِسَابَ) بالفتح؛ أي: لا حسابَ فيه، ويجوز بالرفع؛ أي: ليس في اليوم حسابٌ، ومثله شاذٌّ عند النحاة، وهذا حجَّة عليهم.
          (ص) {بِمُزَحْزِحِهِ}[البقرة:96] بِمُبَاعِدِهِ.
          (ش) [...].