عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب مثل الدنيا في الآخرة
  
              

          ░2▒ (ص) بابٌ: مَثَلُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ مترجم بقوله: (مَثَلُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ).
          قوله: (مَثَلُ الدُّنْيَا) كلامٌ إضافيٌّ مبتدأ، وقوله: (فِي الآَخِرَةِ) متعلِّق بمحذوفٍ؛ تقديره: مَثَلُ الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، وكلمة (في) تأتى بمعنى (إلى) كما في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}[إبراهيم:9] أي: إلى أفواههم، والخبر محذوفٌ؛ تقديره: كمثل لا شيء، ألا ترى أنَّ قدر سوطٍ مِنَ الجنَّة خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها؟ على ما يجيء في حديث الباب، وقال بعضهم: هذه الترجمة بعضُ لفظ حديثٍ أخرجه مسلمٌ والتِّرْمِذيُّ والنَّسائيُّ مِن طريق قيس بن أَبِي حَازِم عن المُسْتَورد بن شَدَّاد رفعه: «والله ما الدنيا في الآخرة إلَّا مثلُ ما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعُ؟».
          قُلْت: لا وجهَ أصلًا في الذي ذكره، ولا خطر ببال البُخَاريِّ هذا، وإِنَّما وضع هذه الترجمة ثُمَّ ذكر حديث سهلٍ؛ لأنَّه يطابقه في المعنى، ولا يخفى ذلك إلَّا على القاصر في الفهم.
          (ص) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20].
          (ش) (وَقَوْلُهُ) بالرَّفع عطف على قوله: (مَثَلُ الدُّنيا) وهذا هكذا بالسَّوق إلى قوله: {مَتَاعُ الْغُرُورِ} في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى قوله: {مَتَاعُ الْغُرُورِ}> وأَوَّل الآية: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} والمراد بِـ{الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} هنا ما يختصُّ بدار الدنيا مِن تَصَرُّف، وأَمَّا ما كان فيها مِنَ الطاعة، وما لا بُدَّ منه مِمَّا يقيم الأَوَدَ، ويعين على الطاعة؛ فليس مرادًا هنا.
          قوله: ({وَزِينَةٌ}) وهي ما يتزيَّن به مِمَّا هو خارج عَن ذات الشيء، / مِمَّا يحسُنُ به الشيء.
          قوله: ({وَتَفَاخُرٌ}) هذا غالبًا يكون بالنسب؛ كعادة العرب.
          قوله: ({وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}) حيث يقولون: نحن أكثر مالًا وولدًا مِن بني فلان، فيتفاخرون بذلك.
          قوله: ({كَمَثَلِ غَيْثٍ}) أي: زَرعٍ ({أَعْجَبَ الْكُفَّارَ}) أي: الزُّرَّاع ({نَبَاتُهُ}) وهم الذين يكفُرُون البذر؛ أي: يغطُّونَه، وقيل: هم مَن كفر؛ لأنَّ الدنيا تُعجِبُهم.
          قوله: ({ثُمَّ يَهِيجُ}) أي: يجفُّ ويبقى حطامًا يتحطَّم، وهذا مَثَلُ الدنيا وزوالها.
          قوله: ({عَذَابٌ شَدِيدٌ}) أي: لأعداء الله تعالى.
          قوله: ({وَمَغْفِرَةٌ}) أي: لأوليائه.
          قوله: ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}) تأكيد لِمَا سبق؛ أي: تغرُّ مَن رَكَن إليها، وأَمَّا التقيُّ فهي له بلاغٌ إلى الآخرة.