الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من استعار من الناس الفرس

          ░33▒ (باب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ) بفتح الفاء والراء، قال في ((الفتح)): زاد أبو ذرٍّ عن مشايخِه: <والدَّابَّةَ> وزاد عن الكشميهنيِّ: <وغيرِها> وثبتَ مثلُه لابنِ شبُّويَه، لكن قال: <وغيرِهما> بالتثنيةِ، وذكر بعضُ الشراحِ ممَّن أدرَكْناه قبلَ الباب: ((كتابُ العاريةِ)) ولم أرَه في شيءٍ من النُّسخِ ولا الشروحِ، والبخاريُّ أضاف العاريةَ إلى الهِبةِ؛ لأنَّها هِبةُ المنافع، انتهى.
          والسينُ في ((استعار)) للطلب؛ أي: طلبَ من غيرِه إعارةَ الفرسِ، ومثلُ الفرسِ غيرُها، كما وُجِدَ في بعضِ النُّسخ، وأراد صاحبُ ((الفتح)) بقولِه: وذكر بعضُ الشراح... إلخ، الإمامَ ابنَ الملقِّنِ؛ فإنَّه وقعَ له هنا قبلَ البابِ المذكورِ.
          وكذا لابن بطَّالٍ: <بسم الله الرحمن الرحيم، كتابُ العاريةِ> ولعلَّ هذه النُّسخةَ أنسبُ، وإنْ أمكنَ إدراجُها في الهبةِ من حيثُ إنَّها هبةُ المنافِعِ؛ لأنَّ عادةَ المصنِّفِ الغالبةَ تقديمُ: ((كتاب)) على الأبواب، وهي بتشديد الياء وتخفيفها، وجمعُها: عَواري كذلك، ويُقالُ فيها: عارَة _بلا ياءٍ_، كما حكاه الجوهريُّ وغيرُه، وحكى ابنُ المنذرِ فيها: عاراة _بالألف_.
          وقال في ((المصباح)): وقد تخفَّفُ العاريةُ في الشِّعرِ، قال الأزهريُّ: مأخوذةٌ من: عارَ الرجلُ: إذا ذهبَ وجاءَ، ومنه قيل للغُلامِ الخفيفِ: عيَّارٌ؛ لكثرة ذهابه ومجيئِه، وقال البَطْلَيوسيُّ: مُشتقَّةٌ من التَّعاوُرِ؛ وهو التَّناوُبُ، وقال الجوهريُّ: كأنَّها منسوبةٌ إلى العار؛ لأنَّ طلبَها عارٌ وعيبٌ.
          قال ابنُ الملقِّن: وهذا خطأٌ؛ لأنه عليه السَّلامُ استعارَ، وتعقِّبَ بأنَّ فعلَ الشارعِ عليه السَّلامُ لبيان الجوازِ، فلا يُنافي أنَّها عارٌ في نفسِها، فتدبَّرْ. وقال بعضُهم: مأخوذةٌ من: عارَ الفرسُ؛ إذا ذهبَ من صاحبه؛ لخروجِها من يدِ صاحبه.
          وردَّه ككلامِ الجَوهريِّ في ((المصباح)) فقال: وهما غلَطٌ؛ لأنَّ العاريةَ من الواويِّ، والعارُ وعارَ الفرَسُ من اليائيِّ، فالصحيحُ ما قاله الأزهريٌّ، ومعناها شرعاً: إباحةُ الانتفاعِ بشيءٍ يحِلُّ الانتفاعُ به مع بقاءِ عَينِه. وشَرطُ المُعيرِ صِحَّةَ تبرُّعِه مع مِلكِه المنفَعةَ، فتصِحُّ إعارةُ المستأجِرِ لا المستَعيرِ؛ لأنه غير مالِكِ المنفَعةِ، وإنَّما أُبيحَ له الانتفاعُ.
          نعم، للمُستَعيرِ استيفاءُ المنفعة بنفسه وبوكيله المقارِبِ له جُثَّةً وتصِحُّ مُطلَقةً ومُقيَّدةً بمدَّةٍ، لكن له الرجوعُ فيها وإنْ قيِّدَتْ بها، وحُكمُها مُطلقاً الضمانُ إذا تلفَتْ في يدِ المستعير، إلا إذا تلفَتْ في الاستعمالِ المأذونِ فيه، / وهذا قولُ الجمهور، وعن المالكيَّة والحنفيَّة: لا يضمَنُ إنْ لم يتعَدَّ، قاله في ((الفتح)) وفي ذلك أحاديثُ، منها ما رواه الأربعةُ وصحَّحه الحاكمُ عن سمُرةَ رفعَه: ((على اليدِ ما أخذَتْ حتى تؤدِّيَه)) ومنها ما رواه أبو داودَ بلفظ: ((العاريةُ مضمونةٌ)).
          وقال ابنُ الملقِّنِ تبعاً لابنِ بطَّالٍ: واختلفَ العلماءُ في عاريةِ الحيوانِ والصِّغارِ وما لا يعابُ عليه، فروى ابنُ القاسمِ عن مالكٍ أنه لا يضمَنُه إلا بالتعدِّي، ويصدَّقُ في دَعواه تلَفَه، وهو قولُ الكوفيِّين والأوزاعيِّ، فإنْ كان مما يعابُ عليه من ثوبٍ أو غيرِه فهو ضامنٌ، ولا يُقبَلُ قولُه في هلاكِهِ، إلا إن كان تقومُ له بينةٌ بأنَّه تَلِفَ من غير تفريطٍ، فلا ضمانَ عليه.
          وقال عطاءٌ: العاريةُ مضمونةٌ على كلِّ حالٍ، تعابُ عليه أو لا، تعدَّى فيها أم لا، وبهذا قال الشافعيُّ وأحمدُ، إلا إذا تلفَتْ بالمأذونِ فيه، فلا ضمانَ، انتهى.
          وقال العينيُّ: قال أصحابُنا الحنفيَّةُ: العاريَةُ أمانةٌ إنْ هلكَتْ من غيرِ تعدٍّ لم يضمَنْ، وهو قولُ عليٍّ وابنِ مسعودٍ والحسنِ والنخعيِّ والشعبيِّ والثوريِّ والأوزاعيِّ وعمرَ بنِ عبدِ العزيز وشُريحٍ، وقضى بذلك ثمانين سنةً بالكوفة، وقال الشافعيُّ: تُضمَنُ، وبه قال أحمدُ، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ وأبي هريرةَ وعطاءٍ وإسحاقَ، وقال قتادةُ: إنْ شَرطَ ضمانَها ضمنَ، وإلَّا فلا، انتهى.
          وسيأتي لذلك تتمَّةُ بحثٍ آخرَ الحديثِ، والأصلُ في جوازها بل نَدبِها أو وجوبِها قولُه تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] فسَّرَه الجمهورُ بما يستعيرُه الجيرانُ بعضُهم من بعضٍ، وفعَلَه عليه السَّلام، كما في حديث الباب.
          وقال ابنُ الملقِّنِ في ((شرح المنهاج)): تفسيرُ {الْمَاعُونَ} بما ذُكرَ هو قولُ ابنِ مسعودٍ ☺ والجمهورِ، وقال عمرُ وعليٌّ ☻: إنَّه الزَّكاة، وقال البُخاريُّ: هو المعروفُ كلُّه، وقال عكرمةُ: أعلاها: الزَّكاةُ المفروضةُ، وأدناها: العاريةُ، انتهى.