الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته

          ░30▒ (باب لا يَحِلُّ) بفتح أوله؛ أي: لا يجوزُ.
          (لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ) أي: التي قبضَها الموهوبُ له (وصَدَقَتِهِ) وفي بعضِ الأصُول تقديمُ: <صدقتهِ> قال في ((الفتح)): كذا بَتَّ الحُكمَ في هذه المسألةِ لقوَّةِ الدَّليلِ عنده فيها، واعترَضَه العينيُّ فقال في قولِه: كذا بتَّ الحكمَ لقوَّةِ الدَّليل عنده: إن كانت القوَّةُ بحديثِ ابن عبَّاسٍ فلا دلالةَ فيه على عدمِ الحدِّ، إلى آخرِ ما ذكرَه، وقيل: قد يُجابُ بأنَّ ظاهرَه الدلالةُ المذكورةُ وإن احتملَ خلافَ ما مرَّ كافٍ في الترجمةِ، فتدبَّرْ.
          وقال: في قوله يمكنُ أنه يرى صحَّةَ الرُّجوعِ وإن كان جَزْماً بغيرِ عُذرٍ، ثم قال: ما أبعدَ هذا عن منهجِ الصَّوابِ! لأنَّه كيف يَرى صحَّةَ شيءٍ مع كَونِهِ حراماً وبين كونِ الشيءِ صَحيحاً وبين كَونِه حَراماً مُنافاةٌ، انتهى.
          وأقول: يُجابُ بأنَّه لا بُعدَ في ذلك، ولا مُنافاةَ فيه، فقد سبقَه إلى ذلك الأئمَّةُ، فذكرَ الشافعيَّةُ صوراً من ذلك، كالوضوءِ بماءٍ مغصوبٍ، وكشِراءٍ بتلقِّي الرُّكبانِ، وغيرِ ذلك، فتأمَّله مُنصفاً.
          وتقدَّمَ في باب الهبةِ للولدِ أنه أشارَ في الترجمةِ إلى أنَّ للوالدِ الرُّجوعَ فيما وهبَه للولد، فيُمكِنُ أنَّه يَرى صحَّةَ الرُّجوعِ له وإن كان حَراماً بغيرِ عُذرٍ، واعترضَه العينيُّ فقال: ما أبعدَ هذا عن منهَجِ الصوابِ! لأنه كيف يَرى صحَّةَ شيءٍ مع حُرمته.
          واختلف السَّلفُ في أصلِ المسألة، وتقدَّمَ تفاصيلُ مذاهبِهم في بابِ الهِبةِ للولدِ، ولا فَرقَ في الحُكمِ بين الهديَّةِ والهِبة، وأمَّا الصدقةُ؛ فاتَّفقوا على أنه لا يجوزُ الرجوعُ فيها بعد القبض، انتهى.
          وفيه أنَّ المعتَدَّ عند الشافعيَّةِ أنه لا يمتنِعُ الرجوعُ / من الوالدِ في الصَّدقةِ أيضاً، ففي ((التُّحفة)) و((المنهاج)): وللأبِ الرُّجوعُ في هِبةِ ولَدِه بالمعنى الأعمِّ الشاملِ للهديَّةِ والصدقةِ، بل يوجدُ هذا في بعض النُّسَخ، وتناقَضا في الصَّدقةِ، لكنَّ المعتمَدَ كما قالَه جمعٌ: ما ذُكرَ، وإن كانَ الولدُ فقيراً صغيراً، انتهى.
          واعترضَ العينيُّ كِلا وجهَيه؛ أنَّ الثانيَ بعيدٌ عن مَنهجِ الصواب، فإنه كيف يَرى صحَّةَ شيءٍ مع كونِه في نفسِ الأمر حراماً؟ وبين كون الشَّيء صحيحاً وبين كونهِ حراماً مُنافاةً، فالصَّحيحُ لا يقالُ له حرامٌ، ولا الحرامُ يقالُ له: صحيح، والأوَّل بأنَّ قوَّة الدليلِ إنْ كان بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ فهو لا يدُلُّ على عَدَمِ الحِلِّ، وأطالَ، ويُدفَعُ بأنَّه يجتمِعُ الحرامُ سواء... في حالِ الهبةِ، والغرَضُ منه بيانُ مثَلِ السَّوءِ.