الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت

          ░20▒ (باب إِذَا وَهَبَ) بفتحات؛ أي: شخصٌ (هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ) أي: الموهوبُ له (وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ) جوابُ الشرطِ محذوفٌ يُقدَّرُ نحو: جازَتْ، ولم يصرِّحْ به للخِلافِ فيه، فإنَّ من العلماءِ مَنِ اشترَطَ مع القبضِ القبولَ.
          قال ابنُ بطَّالٍ: لا يحتاجُ القابضُ أن يقولَ: قَبِلتُ وقد قبَضَها، قال: وعلى هذا جماعةُ العلماء، ألَا ترى أنَّ الواقعَ على أهله في رمضانَ قبضَ من الشارعِ المكتَلَ من التَّمرِ، ولم يقُلْ: قَبِلتُ؛ لاستغنائه عنه بالقبض، وكذا جابرٌ حين اشترى منه الجملَ، فإنَّ النبيَّ صلعم أعطاه ولم يقُلْ: قبلتُ.
          وأجاب في ((الفتح)) كما سيأتي بأنَّ هذه واقعةُ عَينٍ، فلا حُجَّةَ فيها، مع أنَّه لم يصرِّحْ فيها بنفيٍ ولا عدَمِه.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: وغفَلَ ابنُ بطَّالٍ عن مذهبِ الشافعيَّة؛ فإنَّهم يشترِطونَ القَبولَ في الهِبةِ دونَ الهدية، إلا إن كانتِ الهِبةُ ضِمنيَّةً، كما لو قال: أَعتِقْ عبدَك عنِّي بكذا، فأعتَقَه عنه، فإنه يدخُلُ في مِلكِه هِبةً، ويَعتِقُ عنه، ولا يشترطونَ القَبولَ، انتهى.
          وقد يُقال: أرادَ إجماعَ عُلماءِ أئمَّتِهمُ المالكيةِ، فلا غَفْلةَ، فتدبَّرْ، قال: ومقابلُ إطلاق ابنِ بطَّالٍ قولُ الماوَرديِّ، وقال الحسنُ البصريُّ: لا يُعتبَرُ القبولُ / في الهبةِ كالعتقِ، قال: وهو قولٌ شذَّ به عن الجماعةِ، وخالف فيه الكافَّةَ، إلا أن يريدَ الهديَّةَ، فيحتمِلُ، انتهى.
          على أنَّ في اشتراطِ القبولِ في الهديَّةِ وجهاً عند الشافعيَّة، انتهى ما في ((الفتح)).
          وقال القسطلانيُّ وغيرُه: واشترطَ الشافعيةُ الإيجابَ والقبولَ فيها كسائر التمليكات، بخلافِ صحَّةِ العتقِ والإبراءِ والطلاقِ بلا قبولٍ؛ لأنها إسقاطٌ، ولا يُشترطُ الإيجابُ والقبولُ في الهديةِ والصَّدقةِ، ولو في غيرِ المطعوم، بل يكفي البعثُ من المملِّكِ، والقبضُ من المتملِّكِ كما جرى عليه الناسُ في الأمصار، ولهذا كانوا يبعثونهما على أيدي الصِّبيانِ الذين لا تصحُّ عقودُهم، فإن قيل: كان هذا إباحةً لا هديَّةً.
          أُجيبَ بأنَّه لو كان إباحةً ما تصرَّفوا فيه تصرُّفَ الملَّاك.