الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا وهب دينًا على رجل

          ░21▒ (باب إِذَا وَهَبَ) بفتحات؛ أي: شخصٌ (دَيْناً) أي: له (عَلَى رَجُلٍ) أي: وهبَه لمنْ عليه، أو لآخرَ، وجوابُ ((إذا)) محذوفٌ؛ أي: جازَ ولو لم يقبضْه منه، وهذا في الحقيقةِ إبراءٌ لمنْ هو عليه، وهِبةٌ لمنْ ليس عليه.
          قال البرماويُّ كالكرمانيِّ: ومثلُه يُسمَّى بالإبراء، وشرطُه أن يكونَ المتَّهبُ هو مَن في ذمَّتِه الدَّينُ لا غيرُه، انتهى.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: لا خلافَ بين العلماء في صحَّةِ الإبراءِ من الدَّينِ إذا قَبِلَ البراءةَ، سواءٌ وقعَ بلفظِ الهبةِ أو الإبراء، قال: وإنَّما اختلفوا فيما إذا وهبَ دَيناً له على رجلٍ لآخرَ، فقال مالكٌ: تجوزُ الهِبةُ إذا سلَّمَ إليه الوثيقةَ بالدَّينِ وأشهَدَ له بذلك على نفسِه، فإن لم تكُنْ له وثيقةٌ أشهَدَ له على ذلك وأعلَنَه.
          وقال أبو ثور: الهِبةٌ جائزةٌ، أشهَدا أو لا، إذا تقارَّا على ذلك، وقال الكوفيُّونَ والشافعيُّ: الهِبةُ غيرُ جائزةٍ؛ لأنها لا تجوزُ عندهم إلا مقبوضةً، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وعند الشافعيَّةِ في ذلك وجهان، جزَمَ الماوَرديُّ بالبُطلانِ، وصحَّحه الغزاليُّ ومَن تبعَه، وصحَّحَ العمرانيُّ وغيرُه الصِّحةَ، قيل: والخلافُ مرتَّبٌ على البيع؛ إن صحَّحْنا بيعَ الدَّين مِن غيرِ مَن عليه فالهبةُ أولى، وإنْ منَعْناه ففي الهبةِ وجهان، انتهى.
          وقال العينيُّ: وقال أصحابُنا الحنفيةُ: تمليكُ الدَّين ممن ليس هو عليه لا يجوزُ؛ لأنه لا يقدِرُ على تسليمه، ولو ملكَه ممَّن هو عليه يجوزُ؛ لأنه إسقاطٌ وإبراءٌ.
          (قَالَ شُعْبَةُ) أي: ابنُ الحَجَّاج (عَنِ الْحَكَمِ) بفتحتَين؛ أي: ابنِ عُتَيبةَ _بمثناة فوقية_ (هُوَ) أي: هذا الفعلُ؛ وهو هبةُ الدَّينِ لمنْ هو عليه (جَائِزٌ) أي: صحيحٌ.
          قال في ((الفتح)): وصلَه ابنُ أبي شيبةَ عن أبي داود عن شُعبةَ قال: قال لي الحكمُ: أتاني ابنُ أبي ليلى _يعني: محمدَ بن عبدِ الرحمن_، فسألَني عن رجلٍ كان له على رجلٍ دينٌ فوهبَه له، ألَه أن يرجعَ فيه؟ قلتُ: لا، قال شعبةُ: فسألتُ حمَّاداً، فقال: بلى، له أن يرجعَ فيه.
          (وَوَهَبَ الْحَسَنُ) بفتحتَين (ابْنُ عَلِيٍّ) أي: ابنِ أبي طالبٍ ☻ (لِرَجُلٍ) أي: له عليه دَينٌ (دَيْنَهُ) يحتمِلُ أنَّ الضميرَ للحسَنِ أو للرجل.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ) بضم التحتية وكسر الطاء؛ أي: فليدفَعْ مَنْ عليه الحَقُّ لصاحبِه (أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ) ((أو)) للتَّنويعِ لا للشكِّ، وضميرُ: ((منه)) لذِي الحقِّ، ومفعولُ ((ليتحلَّلَه)) للحقِّ، ويحتملُ العكسَ.
          وهذا التعليقُ وصلَه مسدَّدٌ في ((مسنَدِه)) عن أبي هريرةَ رفعَه بلفظِ: ((مَنْ كان لأحدٍ عليه حقٌّ فليُعطِه إياه أو ليتحَلَّلْه منه...)) الحديثَ.
          وتقدَّمَ موصولاً للمصنِّفِ بمعناه في المظالم.
          ووجهُ مطابقته للترجمةِ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام سوَّى بين أن يُعطيَه إياه أو يُحلِّلَه منه، ولم يشترِطْ / في التحليلِ قَبضاً، قاله في ((الفتح)).
          (فَقَالَ) بالفاء، وفي بعض النُّسَخ: <وقال> بالواو (جَابِرٌ) ☺ (قُتِلَ) بالبناء للمفعول (أَبِي) بكسر الموحدة، هو عبدُ الله الأنصاريُّ، وكان قُتلَ يومَ أُحُدٍ.
          وجملة: (وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) حاليةٌ، ورقَمَ في الفرعِ علامةَ السُّقوطِ عليها (فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلعم غُرَمَاءَهُ) بضم الغين المعجمة، جمعُ: غَريمٍ (أَنْ يَقْبَلُوا) بفتح التحتية والموحدة (تَمْرَ) بالمثناة وسكون الميم، وفي بعض الأصول: بفتح المثلثة والميم، بل قدَّمَه الكرمانيُّ ومَن تَبعَه (حَائِطِي) بالحاء المهملة؛ أي: بُستاني.
          (وَيُحَلِّلُوا) بضم التحتية؛ أي: ويُسامِحوا (أَبِي) أي: عبدَ الله.
          والمطابقةُ للترجمةِ تؤخَذُ من قولِه: ((فسألَ النبيُّ صلعم غرماءه...)) إلخ، فلو حلَّلوه كان في ذلك براءةٌ لذمَّتِه من بقيَّةِ الدَّين، فكأنَّه هِبةٌ له، ولو لم يكُنْ جائزاً لَما طلبَه عليه السَّلامُ، قاله في ((الفتح)) وهذا التعليقُ سبَقَ مَوصولاً في القَرضِ، ووصلَه المصنِّفُ هنا بأتمَّ.