الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما قيل في العمرى والرقبى

          ♫
          سقطَتِ البسمَلةُ لأبي ذرٍّ في ((اليونينية))، وثبتت للأصيليِّ وكريمةَ هنا.
          ░32 ▒ (باب مَا قِيلَ) بالبناء للمجهول؛ أي: وَردَ (فِي الْعُمْرَى) بضم العين المهملة وسكون الميم والقصر، مأخوذٌ من العُمر.
          قال ابنُ سِيدَه: العُمْرى: مصدرٌ كالرُّجْعى، قال في ((الفتح)): وحُكيَ ضمُّ الميم مع ضمِّ أوله، وحُكيَ فتحُ أوله مع السكون.
          (وَالرُّقْبَى) بوزنِها، مأخوذةٌ من المراقَبة، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيُعطي الرجلُ غيرَه داراً مثلاً، ويقولُ له: أعمَرتُكَ إياها؛ أي: أبحتُكَ إياها مدَّة عُمرِكَ، أو يقولُ له: أرقَبتُك إياها، أو هي لك رُقْبى أو عُمْرى؛ لأنَّ كلاًّ منهما يرقُبُ موتَ الآخرِ وينتظرُ عمرَه لترجِعَ إليه وكذا لورثته، وهذا أصلُها لغةً.
          وأما شرعاً: فالجمهورُ على أنَّ العُمْرى إذا وقعَتْ كانت مِلْكاً للآخذِ، ولا ترجعُ إلى الدَّافعِ إلا إن صرَّحَ باشتراطِ ذلك على خلافٍ فيه.
          والراجحُ أنها لا ترجعُ إلى الدافعِ وإن اشترَطَ ذلك، بل يلغو الشرطُ المذكورُ، وإنْ أوهمَ كلامُ ((الفتح)) خلافَه، وهي صحيحةٌ عند الجميع، إلا ما حكاه أبو الطَّيبِ الطبريُّ عن بعض النَّاسِ، والماورديُّ عن داودَ وطائفةٍ، لكنِ ابنُ حزمٍ من الظاهريةِ قال بصحَّتِها.
          والجمهورُ على أنَّ الملكَ يتوجَّهُ إلى الرَّقبةِ كسائرِ الهبات، ومنهمُ الشافعيةُ على الراجحِ عندهم، حتى لو كان المعمَّرُ عبداً، فأعتقَه الآخذُ نفذَ عتقُه، والولاءُ له لا للدَّافعِ، وقيل: يتوجَّهُ الملكُ إلى المنفعةِ لا الرَّقبةِ، وهو قولُ مالكٍ وكذا الشافعيُّ في ((القديم)) وعليه: فهل يجري مَجرى العارية أو الوقف؟ روايتانِ للمالكيَّةِ، وعند الحنفيَّة: يتوجَّهُ التَّملكُ في العُمْرى إلى الرَّقبةِ، وفي الرُّقْبى إلى المنفعةِ، وعنهم: أنَّ الرُّقْبى باطلةٌ، وهو الصحيحُ عندهم.
          وقوله: (أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْرَى) بفتح الراء مقصوراً، كما مرَّ (جَعَلْتُهَا) أي: الدارَ (لَهُ) أي: للشخصِ المدلولِ عليه بالمقامِ أيضاً في قوله: ((أعمَرتُه)) من كلام البخاريِّ، ذكره تفسيراً للعُمْرى، ومثلُها الرُّقْبى، وهذه الصِّيغةُ هِبةٌ وإنْ زاد: فإنْ مِتَّ قبلي عادَتْ إليَّ.
          قال في ((الفتح)): أطلقَ الجَعلَ لأنَّه يرى أنَّها تصيرُ؛ أي: كالرُّقبى مِلكاً للموهوبِ له كقولِ الجمهور، ولا يرى أنَّها عاريَةٌ.
          وقوله: ({اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]) أي: في الأرض (جَعَلَكُمْ عُمَّاراً) بضم العين المهملة وتشديد الميم، أخذَه من تفسير أبي عُبيدةَ في ((المَجاز)) وعليه يعتمِدُ كثيراً، وقال غيرُ أبي عبيدةَ: {اسْتَعْمَرَكُمْ} أطالَ أعمارَكم، وقيل: معناه: أَذِنَ لكم في عمارتِها واستخراجِ ما تقتاتون منها، وعبارةُ البيضاويِّ: عمَّرَكم فيها واستَبْقاكم، من العُمرِ، أو أقدَرَكم على عمارتِها، أو أمَّرَكم بها، وقيل: هو من العُمْرى، بمعنى: أعمَرَكم في ديارِكم، ويَرِثُها منكم بعد انصرامِ أعمَارِكم، أو جعلَكم معمِّرينَ ديارَكم تسكنونَها مدَّةَ عمرِكم، ثم تُبقونَها لغيرِكُم، انتهت.