الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الهبة للولد

          ░12▒ (بابُ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ) أي: بيانِ حُكمِ الهبةِ له من والِدِه (وَإِذَا أَعْطَى) بفتح الطاء المهمَلة؛ أي: وإذا وهَبَ الوالِدُ (بَعْضَ وَلَدِهِ) أي: لبعضِ أولادِه دونَ بعضٍ (شَيْئاً) أي: من مالِه، وإنْ قَلَّ (لَمْ يَجُزْ) بضم الجيم؛ أي: لا ينبغي له تفضيلُ بعضِهم أو حِرمانُ البعضِ الآخر (حَتَّى يَعْدِلَ) بفتحِ أوَّله وآخرِه؛ أي: يساوي (بَيْنَهُمْ) وفسَّرَ العَدْلَ بينهم بقولِه: (وَيُعْطِيَ) بكسر الطاء المهملة والنصب (الآخَرِينَ) بفتح الخاء المعجَمةِ والجمعِ (مِثْلَهُ) وللحمَويِّ والمستَمليِّ: <ويُعطى الآخَرُ مِثلَه> ببناء <يُعطى> للمفعول، ورفعِ <الآخَرُ> وإفرادِه.
          (وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ) ببناء ((يُشهَدُ)) للمفعول كما في الشروحِ والأصولِ، ولو بُنيَ للفاعلِ لم يمتنِعْ، وهو عليهما مرفوعٌ أو مجزومٌ، وضميرُ ((عليه)) للوالِدِ، قال الكِرمانيُّ: والجملةُ معطوفةٌ على لم يجزْ، وفي بعضِ النُّسَخ: <ويُشهَدُ> بدونِ ((لا)) وذِكرُها هو المناسِبُ لحديثِ عَمْرةَ أي: في البابِ بعدَه، انتهى.
          والمرادُ أنه لا ينبغي للشهود أن يشهَدوا على ذلك الفعلِ؛ لأنَّه جَورٌ، وأقول: على عدَمِ ((لا)) تحصُلُ المناسَبةُ أيضاً بجَعلِ: ((يُشهَدُ)) عطفاً على ((يَجُزْ)) فتُسلَّطُ عليه: ((لم)) وفي بعضِ الأصول: <ولا يُشهِدُ> بكسر الهاء مشدَّدةً، وظاهرُ كلامِ البُخاريِّ أن التفضيلَ بين الأولادِ حرامٌ، والشهادةُ عليه كذلك، ويدُلُّ لذلك ما ذكرَه في الباب.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: اختلَفَ العلماءُ في الرجلِ يَنحَلُ بعضَ ولدِه دونَ بعضٍ، فكرِهَه طاووسٌ، وقال: لا يجوزُ ذلك ولو رَغيفاً مُحرَقاً، وهو قولُ عُروةَ ومُجاهدٍ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ، قال إسحاقُ: فإنْ فعَلَ فالعَطيَّةُ باطلةٌ، واحتجُّوا بأنَّ النبيَّ عليه السلامُ ردَّ عطيَّةَ النُّعمان، وقال له: ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادِكم)) وبقولِه: ((لا أشهد على جَورٍ)) وأجاز ذلك مالكٌ في الأشهرِ عنه، وهو قولُ الكوفيِّين والشافعيِّ، وإن كانوا يستحِبُّون أن يسوَّى بينهم ذكوراً كانوا أو إناثاً، وقال عطاءٌ وطاوسٌ: يَجعَلُ للذَّكرِ مثلَ حظِّ الأُنثيَين كما قسَّمَ تعالى بعد الموت، وهو قولُ الثَّوريِّ ومحمَّدِ بنِ الحسَنِ وأحمدَ وإسحاقَ، وأطالَ في ذلك، وسيأتي لذلك مزيدُ تفصيلٍ.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: اعْدِلُوا) بكسر الدال والهمزة للوصل (بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ) أي: سواءٌ كانتْ هِبةً أو صدقةً أو هديةً، وهذا التعليقُ وصلَه المصنِّفُ في الباب الذي بعدَه، لكنْ بإسقاطِ: ((في العَطيَّة)) وهذا كالدَّليلِ لِما قبلَه، وأخرجَه الطَّحَاويُّ عن النُّعمانِ بلفظ: ((سَوُّوا بين أولادِكم في العَطيَّةِ كما تحبُّون أن يسوُّوا بينكم في البِرِّ)).
          (وَهَلْ لِلْوَالِدِ) المرادُ الأصلُ، ذكَراً وأنثى، قريباً أو بعيداً، إما بالقياس لغيرِ الأبِ عليه، وإما بالإطلاقِ على الأنثى ولو مَجازاً، أو يُقال: الوالدُ يشمَلُ الذكرَ والأنثى، فتدبَّرْ، ولو مَجازاً (أَنْ يَرْجِعَ) بفتح التحتية وكسر الجيم (فِي عَطِيَّتِهِ) أي: التي أعطاها لولدِهِ، وفي ذلك خِلافٌ أيضاً، فعند الجمهورِ ومنهم الشافعيَّةُ: له الرُّجوعُ بشَرطِ أن لا يخرُجَ عن مِلكِهِ.
          قال ابنُ بطَّالٍ نقلاً عن المهلَّب: قال مالكٌ: له أن يَرجِعَ في هِبتِه وإن قبضَها الولَدُ، ما لم تتغيَّرْ أو يحدُثْ دَينٌ، أو تتزوَّجِ المرأةُ بعد الهِبة، وقال الشافعيُّ: له الرُّجوعُ في هبتِه، ولا يُعتبَرُ طروءُ دَينٍ أو تَزويجٍ / .
          وقال أبو حنيفةَ: لا يرجِعُ فيما وهَبَ لولدِه، وأطال في الاستِدلالِ للفريقَين، واستدلَّ الشافعيَّةُ بحديثِ التِّرمذيِّ والحاكم، وصحَّحَاه عن: ((لا يحِلُّ للرجلِ أن يُعطيَ عَطِيَّةً أو يهَبَ هِبةً، فيَرجِعَ فيها، إلا الوالدَ فيما يُعطي ولدَه)).
          (وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ) أي: إنِ احتاجَ (وَلاَ يَتَعَدَّى) بفتح الدال مشدَّدةً، ولعلَّه تأكيدٌ مع قولِه: ((بالمعروف)).
          تنبيه: محَلُّ ((ما)) الموصولةِ الجرُّ عَطفاً على الهِبةِ أوَّلَ الترجمةِ، فهو من جُملتِها، فصَلَ بينهما المصنِّفُ بما تقدَّمَ، وجملةُ: ((يأكل...)) إلخ، صِلةُ ((ما)) والعائدُ إليها محذوفٌ؛ أي: يأكُلُه، لكنْ في انتِزاعِ هذا الحُكمِ من أحاديثِ البابِ خَفاءٌ، كما قالَ ابنُ المنيِّر.
          وأقول: لعلَّ البُخاريَّ أشارَ إلى ما رواه الحاكمُ من حديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً: ((إنَّ أطيبَ ما أكَلَ الرجلُ من كَسبِه، وإنَّ ولدَه من كَسبِه، فكُلُوا من مالِ أولادِكم)).
          وقال في ((الفتح)): اشتملت هذه التَّرجمةُ على أربعةِ أحكامٍ:
          الأول: الهبةُ للولد، وإنَّما تَرجَمَ به ليَرفعَ إشكالَ مَنْ يأخُذُ بظاهرِ الحديثِ المشهورِ: ((أنتَ ومالُكَ لأبيك)) لأنَّ مالَ الولدِ إذا كان لأبيه، فلو وهَبَ الأبُ ولدَه شيئاً كان كأنَّه وهَبَ نفسَه، ففي الترجمةِ إشارةٌ إلى ضَعفِ الحديثِ المذكورِ، أو إلى تأويلِه، وهو حديثٌ أخرجَه ابنُ ماجَهْ من حديثِ جابرٍ، قالَ الدَّارَقُطنيُّ: غريبٌ.
          تفرَّدَ به عيسى بنُ يونُس بنِ أبي إسحاقَ، ويوسفُ بنُ إسحاقَ بنِ أبي إسحاقَ عنِ ابن المنكدِر، وقال ابنُ القطَّان: إسنادُه صحيحٌ، وقال المنذريُّ: رجالُه ثقاتٌ، وله طريقٌ أخرى عن جابرٍ عند الطبرانيِّ في ((الصغير)) والبيهقيِّ في ((الدَّلائل)) فيها قصَّةٌ مطوَّلةٌ، وفي الباب عن عائشةَ في ((صحيحِ ابن حبَّان))، وعن سمُرةَ وعن عُمرَ كلاهما عند البزَّار، وعن ابنِ مسعودٍ عند الطبرانيِّ، وعن ابنِ عمرَ عند أبي يَعلى، قال: فجُموعُ طُرقِه لا تحطُّه عن القوة وجوازِ الاحتجاج ليتعيَّنَ تأويلُه، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ بأنَّه لا وجهَ لدَلالةِ الترجمةِ على ضعفِ الحديث، انتهى.
          وأقول: لعلَّه أراد بضعفِه أنه ليس على شرط البُخاريِّ وإن كانَ صحيحاً في حدِّ ذاتِه، كما أشار إليه في ((الفتح))، فتدبَّر.
          ثم ذكر العينيُّ أنَّ الطبرانيَّ أخرجه في ((الصغير)) وكذا البيهقيُّ في ((الدلائل)) عن جابرٍ بلفظ: ((جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلعم، فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ أَبِيَه يريدُ أن يأخُذَ ماليَهْ...)) الحديثَ بطولِه، قال: وفي آخرِهِ: ((بكى النبيُّ صلعم ثم أخذَ بتَلَبيبِ ابنِه وقال له: اذهَبْ فأنت ومالُكَ لأبيكَ)).
          ثم قال في ((الفتح)): الحكمُ الثاني: العدلُ بين الأولاد في الهِبةِ، وهي من مسائلِ الاختلاف أيضاً كما سيأتي، انتهى.
          وقال العينيُّ: اختلَفَ العُلماءُ من التابعين وغيرِهم فيه؛ فقال طاوسٌ وعطاءٌ ومجاهدٌ وعروةُ وابنُ جريجٍ والنخعيُّ وابنُ شُبرمةَ وأحمدُ وإسحاقُ وسائر الظَّاهريةِ: إنَّ الرجلَ إذا نحل بعضَ ولدِه دون بعضٍ فهو باطلٌ، والأصحُّ عن أحمدَ كما قال ابنُ عبدِ البَرِّ، وذكرَه الخِرَقيُّ في ((مختصره)) أنَّه يؤمَرُ برَدِّه.
          وقال الليثُ بنُ سعدٍ والثوريُّ ومحمدُ بنُ المنكدرِ وأبو حنيفةَ وصاحباه ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ: يجوزُ ذلك؛ أي: لكن مع الكراهة، انتهى ملخَّصاً.
          ثم قال في ((الفتح)): الحكمُ الثالث: رجوعُ الوالدِ فيما وهَبَ للولدِ، وهي مسألةٌ ذاتُ خلافٍ أيضاً، ومنهم من قال: لا يرجِعُ في الصدقةِ ويَرجِعُ في الهبة، انتهى.
          وفي ((التوضيح)): لا رجوعَ في الهِبةِ إلا للأصُولِ، أباً كان أو أماً، أو جداً أو جدةً، وليس لغيرِ الأبِ الرجوعُ عند مالكٍ وأكثرِ أهلِ المدينةِ، إلا أنَّ الأمَّ لها الرُّجوعُ أيضاً فيما وهبَتْ لولدِها عند مالكٍ إن كانَ الأبُ حياً، / لا عند أكثرِ أهلِ المدينة، انتهى.
          وقال العينيُّ: وعند أصحابِنا الحنفية: لا رجوعَ فيما يهَبُ لكلِّ ذي رَحِمٍ مُحرَّمٍ بالنَّسَب، وبه قال طاوسٌ والحسنُ وأحمدُ وأبو ثورٍ، انتهى.
          ثم قال في ((الفتح)): الحكمُ الرابع: أكلُ الوالدِ من مالِ الولدِ بالمعروف، قال ابنُ المنيِّر: وفي انتزاعِهِ من حديث الباب خفاءٌ، ووجَّهَه في ((الفتح)) بأنَّه لمَّا جازَ للأبِ بالاتِّفاقِ أن يأكُلَ من مالِ ولدِه إذا احتاجِ إليه، فلَأنْ يسترجِعَ ما وهَبَه له بطريقِ الأَولى، انتهى.
          وأقول: هذه العبارةُ مقلوبةٌ، وعبارةُ الكرمانيِّ نقلاً عن شارحِ التراجم، فإن قيل: ليس في حديث النُّعمانِ ما يدلُّ على أكلِ الرجلِ من مالِ ولدِهِ، قلنا: إذا جازَ للرجلِ انتِزاعُ مِلكِ ولدِه الثابتِ بالهبةِ لغيرِ حاجةٍ، فلأَنْ يجوزَ عند الحاجةِ أَولى، انتهَتْ. ومثلُها عبارةُ كثيرٍ من الشراح، فافهم.
          وقال العينيُّ: وعند أبي حنيفةَ: يجوزُ للأبِ الفقيرِ أن يبيعَ عرَضَ ابنِه الغائبِ لأجل النَّفقة؛ لأنَّ له تملُّكَ مالِ الابنِ عند الحاجة، ولا يصحُّ بيعُ عقارِهِ لأجل النَّفقة.
          وقال أبو يوسفَ ومحمدٌ: لا يجوزُ فيهما، قال: وأجمَعوا _كما في الطَّحاويِّ_ على أنَّ الأمَّ لا تبيعُ مالَ ولدِها الصَّغيرِ والكبيرِ، انتهى، فتدبَّر.
          (وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلعم مِنْ عُمَرَ ☺ بَعِيراً، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابنَ عُمرَ ☻، وَقَالَ: اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) بفتح الفوقية، قال في ((الفتح)): هو طرَفٌ من حديثٍ سبَقَ موصولاً في البيوعِ، ويأتي أيضاً موصُولاً بعد اثنَي عشَرَ باباً.
          قال ابنُ بطَّالٍ: مُناسَبةُ حديثِ ابنِ عُمرَ للترجمةِ أنه صلعم لو سألَ عمرَ أن يهَبَ البعيرَ لابنِه عبدِ الله لَبادَرَ إلى ذلك، لكنَّه لو فعَلَ لم يكُنْ عدلاً بين بني عمرَ، فلذلك اشتراه صلعم منه ثم وهَبَه لعبد الله، قال المهلَّبُ: وفي ذلك دلالةٌ على أنه لا تلزَمُ المعدَلةُ فيما يهَبُه غيرُ الأبِ لولدِ غيرِهِ، وهو كما قال، ويؤخَذُ من الحديثِ جَوازُ الحِيلةِ، فافهم.