الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الهدية للمشركين

          ░29▒ (باب الْهَدِيَّةِ) أي: جوازِها (لِلْمُشْرِكِينَ) أي: إذا كانوا نحوَ محرَمٍ لما يأتي.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: في سورةِ الممتحِنةِ، وفي بعض النُّسخ: <وقولِ الله ╡>: ({لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]) وقع في نُسَخٍ ذِكرُ الآيةِ بكمالِها.
          قال في ((الفتح)): هي روايةُ أبوَي ذرٍّ والوقت، وساقَها الباقونَ إلى قوله: / <{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}> ومفهومُ الآيةِ أنَّ الله تعالى لم ينهَنا عن البرِّ والإحسانِ إلى مَنْ لم يُقاتِلونا من المشركين ولم يُخرِجونا من ديارنا، وإنَّما نهانا عن موادَّةِ مَنْ خالف في ذلك، فإنَّ {تَبَرُّوهُمْ} في تأويلِ مصدَرٍ، بدلٌ من {الَّذِينَ}.
          قال في ((الفتح)): والمرادُ منها بيانُ مَن يجوزُ بِرُّه منهم، وأنَّ الهديَّةَ للمُشرِكِ إثباتاً ونفياً ليس على الإطلاق، ومن هذا قولُه تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً...} [لقمان:15] الآيةَ، ثم البرُّ والصِّلةُ والإحسانُ إليهم لا يستلزِمُ التحابُبَ والتوادُدَ المنهيَّ عنه في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} [المجادلة:22] الآيةَ، فإنها عامَّةٌ في حقِّ مَنْ قاتَلَ ومَن لم يُقاتِلْ، انتهى.
          والمعنى: لا ينهاكمُ اللهُ عن الإحسانِ إلى الكفَّارِ الذين لم يُقاتِلوكم في الدين ولم يُخرِجوكم من ديارِكم، وهم _كما قال ابنُ كثيرٍ_ النَّساءُ والضَّعَفةُ منهم، واختَلَفَ المفسِّرونَ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ، فقال الطبريُّ: نزلَتْ في قُتَيلةِ امرأةِ أبي بكرٍ، أمِّ بنتِه أسماءَ، فإنه كان طلَّقَها في الجاهليةِ، فقَدِمَتْ على بنتِها أسماءَ منه، فأهدَتْ لها قِرْطاً وأشياءَ غيرَه، فكَرِهَتْ قَبولَها حتى ذكَرَتْه لرسولِ الله صلعم فنزلت، وقيل: نزلَتْ في مُشركي مكَّةَ الذين لم يُقاتِلوا المؤمنينَ ولم يُخرجوهم من ديارٍهم.
          وقال مجاهد: الخطابُ للمؤمنين الذين استمَرُّوا بمكَّةَ، والذين قاتَلوهم كفارُ مكَّةَ، وقال السُّديُّ: كان هذا قبلَ أن يؤمَروا بقتال المشركينِ، حيثُ استشاروا رسولَ الله صلعم في برِّهم والإحسانِ إليهم، فنزلَتِ الآيةُ، ثم نُسِخَ ذلك، وبه قالَ قَتادةُ وابنُ زيدٍ، فقالا: لا يجوزُ الإهداءُ للمشركينَ إلَّا للأبوَينِ خاصَّةً؛ لأنَّ الهديةَ فيها تأنيسُ المُهدى إليه، وتثبيتٌ لمودَّتِه، وقد نهانا تعالى عن التودُّدِ لهم بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وبقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...} [الممتحنة:1] الآيةَ، وكأنَّ الأبوَينِ عندهما مستثنَيَينِ للأمرِ بمصاحبَتِهما بالمعروفِ في القرآن.