الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها

          2566- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ) هو أبو الحُسينِ الواسِطيُّ، مولى قُرَيبةَ بنتِ محمدِ بنِ أبي بكرٍ الصِّدِّيق، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) بالذال المعجمة؛ وهو: محمدُ بنُ عبدِ الرحمن بنِ الحارثِ بنِ أبي ذئبٍ، فنسَبَه لجدِّ أبيه لشُهرتِه به (عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وضم الموحدة، واسمُه: سعيدٌ (عَنْ أَبِيهِ) هو كَيْسانُ _بفتح الكاف_ وسقطَ <عن أبيه> للأصيليِّ وكَريمةَ وابنِ عساكر.
          قال في ((الفتح)): وضبَّبَ عليه في روايةِ النَّسفيِّ، والصَّوابُ إثباتُه، وكذا أخرجَه الإسماعيليُّ وأبو نُعَيمٍ وأبو عوانةَ، كلُّهم عن عاصمٍ شيخِ البُخاريِّ، وأخرجَه البُخاريُّ في ((الأدب المفرد)) عن آدمَ، وكذلك اللَّيثُ عن المقبُريِّ عن أبي هريرةَ، ولم يقل: ((عن أبيه)) وزادَ في أولِهِ: ((تَهادوا؛ فإنَّ الهديَّةَ تُذهِبَ وَحَرَ الصدر...)) الحديثَ، وقال: غريبٌ، وفيه: أبو معشَرٍ ضعيفٌ، وقال الطَّرْقيُّ: أخطأَ حيثُ لم يقُلْ: ((عن أبيه)) كذا قال، نعم؛ مَنْ زاد فيه: ((عن أبيه)) أحفظُ، فروايتُهم أَولى، انتهى.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ) أي: النبيُّ صلعم، قال في ((الفتح)): في روايةِ عثمانَ بنِ عمرَ، سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: (يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ) ويُروى: ((المؤمناتِ)) كما قال البرماويُّ وغيرُه، ونسَبَها القسطلانيُّ للنُّسخةِ المقروءةِ على الميدوميِّ، وعلى كلٍّ ففيه ثلاثةُ أوجُهٍ:
          أحدُها: نصبُ ((نساءَ)) وجرُّ ((المسلماتِ)) أو ((المؤمناتِ))، قال ابنُ الملقِّن: قال الباجيُّ: وبهذا روَيناه عن جميعِ شيوخِنَا بالمشرِقِ، وقال / في ((الفتح)): قال عياضٌ: الأصحُّ الأشهَرُ نَصْبُ النِّساءِ وجرُّ ((المسلمات)) على الإضافةِ، وهي روايةُ المشارِقةِ، من إضافةِ الشَّيءِ إلى نفسِهِ، كمسجِدِ الجامعِ، وهو على ظاهرِهِ عند الكوفيِّين، ويُقدَّرُ فيه عند البصريِّين نحوُ: يا نساءَ الأنفُسِ المؤمنات، أو يا نساءَ الطَّوائفِ أو الجمَاعاتِ المؤمنات.
          وقال ابنُ رشيد: توجيهُه أنَّه خاطبَ نساءً بأعيانهنَّ، فأقبلَ بندائه عليهنَّ، فصحَّتِ الإضافةُ على معنى مدحِهنَّ، فكأنَّه قال: يا خيِّراتِ، أو يا فاضلاتِ المسلمات، كما يقالُ: هؤلاءِ رجالُ القوم؛ أي: أفاضِلُهم.
          وتُعقِّبَ: بأنَّ النبيَّ صلعم لم يخصِّصهنَّ بذلك؛ لأنَّ غيرهنَّ يشاركُهنَّ في هذا الحكم، وأُجيبَ بأنَّ مشاركةَ غيرِهنَّ بطريقِ الإلحاقِ، وأنكرَ ابنُ عبدِ البرِّ روايةَ الإضافة، وردَّه ابنُ السَّيدِ بأنَّ الإضافة صحَّتْ نقلاً وساعدَتْها اللغةُ، فلا مَعنى لإنكارِها، واستبعَدَ ابنُ بطَّالٍ تقديرَ الموصُوفِ بنحوِ الأنفُسِ، فإنَّ المرادَ بها الرِّجالُ، فيصيرُ مَدْحاً للرجال، ويؤيِّدُه روايةُ الطَّبرانيِّ من حديثِ عائشةَ بلفظ: ((يا نساءَ المؤمنين...)) الحديثَ، وهو عليه السلامُ إنَّما خاطبَ النِّساءَ، قال: إلا أن يُرادَ بالأنفُسِ الرِّجالُ والنِّساءُ معاً؛ يعني: أو النِّساءُ فقط.
          قال في ((الفتح)): وتعقَّبَه ابنُ المنيِّر، ولم يذكُرْ وجهَ التعقُّبِ.
          ثانيها: رفعُهما، قال الباجيُّ: كذا يرويه أهلُ بلدِنا، نقلَه عنه ابنُ الملقِّنِ على معنى: يا أيُّها النِّساءُ المسلماتُ، فرَفعُ ((نساءُ)) من غير تنوينٍ؛ لأنَّه نكرةٌ مقصُودةٌ، ورَفعُ ((المسلماتُ)) لأنه نعتٌ له على اللفظ.
          ثالثها: رفعُ النساءِ ونصبُ ((المسلماتِ)) بالكسرة اتِّباعاً على المحلِّ، وهذه الأوجُهُ الثلاثةُ رواياتٌ في هذا الحديث كما في ((المصابيح)) وغيرِه.
          (لاَ تَحْقِرَنَّ) بفتح الفوقية أولَه وسكون الحاء المهملة وكسر القاف، وبنون التَّوكيد الثقيلة؛ أي: لا تحتَقِرَنَّ.
          قال في ((المصباح)) حَقُرَ الشيءُ _بالضم_ حقارةً؛ هانَ قدرُه، فلا يُعبَأُ به، فهو حَقيرٌ، ويُعدَّى بالحركة، فيُقال: حقَرْتُه _من باب ضرب_ فاحتقَرتُه، والحُقْرةُ اسمٌ منه، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): الحاقورةُ: السَّماءُ الرابعة، والحُقرةُ: الذِّلَّةُ، كالحُقْريةِ _بالضم_ والحقارةِ _مثلَّثة_ والمَحقَرة، والفِعلُ كضرَبَ وكَرُمَ، والإذلالُ كالتحقيرِ والاحتقارِ والاستحقارِ، والفِعلُ كضَرَبَ، والحَيْقَرُ الذَّليلُ _وتضم القاف_ الذَّليلُ أو الضَّعيفُ أو اللئيمُ الأصلِ.
          (جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) ولأبي ذرٍّ: <لجارةٍ> والمفعولُ كالمتعلَّقِ محذوفٌ تقديرُه: هديَّةً مُهداةً لجارتِها، ويحتمِلُ أن يُكتفى بتقدير: هديةً لجارتِها.
          (وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) أي: ولو كان المُهدى ظُلْفَ شاةٍ، فـ((فِرسِن)) خبرُ كانَ محذوفةٍ هي واسمُها، والجمعُ: فَراسِنُ، ولا يُقال: فِرسِنات، كما قالوا: خَناصِرُ في خِنصِر، ولم يقولوا: خِنصِرات، ذكرَه ابنُ الملقِّن.
          قال في ((الفتح)): ((فِرْسِن)) بكسر الفاء والمهملة بينهما راءٌ ساكنةٌ، وآخرَه نونٌ؛ هو عَظمٌ قليلُ اللَّحمِ، وهو للبَعيرِ مَوضِعُ الحافرِ من الفَرسِ، ويُطلَقُ على الشَّاةِ مجازاً، ونونُه زائدةٌ، وقيل: أصليةٌ، وأُشيرَ بذلك إلى المبالغةِ في إهداءِ الشَّيءِ اليسيرِ وقَبولِه، لا إلى حقيقةِ الفِرْسِن؛ لأنَّه لم تجرِ العادةُ بإهدائهِ؛ أي: لا تمنعُ جارةٌ من الهديةِ لجارتِها الموجودَ عندها لاستقلالِه، بل ينبغِي أن تجودَ لها بما تيسَّرَ وإن كان قليلاً، فهو خيرٌ من العدَمِ، وذِكرُ الفِرسِنِ على سبيلِ المبالَغةِ، ويحتمِلُ أن يكونَ النهيُ إنَّما وقعَ للمُهدى إليها، وأنها لا تحتقرُ ما يُهدى إليها ولو كان قليلاً، وحَملُه على الأعمِّ أَولى، وفي حديثِ عائشةَ: ((يا نساءَ المؤمنين؛ تَهادوا ولو فِرسِنَ شاةٍ، فإنه يُنبِتُ المودَّةَ ويُذهِبُ الضَّغائنَ)) قال: وفي الحديثِ الحضُّ على التَّهادي ولو باليسير؛ لأنَّ الكثيرَ / قد لا يتيسَّرُ كلَّ وقتٍ، وإذا تواصلَ اليسيرُ صار كثيراً، وفيه استجلابُ المودَّةِ وإسقاطُ التكلُّف.
          وحديثُ البابِ أخرجَه مسلمٌ أيضاً، ومطابقَتُه للترجمةِ باعتبارِ المقدَّرِ، فافهم.