نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة

          2615- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الله، أبو جعفر البخاريِّ المسندي، وهو من أفراده، قال: (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أبو محمد المؤدب البغدادي، وقد مرَّ في «الوضوء» [خ¦158]، قال: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) بفتح الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية، هو: ابن عبد الرَّحمن النَّحوي، وقد مرَّ في «العلم» [خ¦112].
          (عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ ☺ قَالَ: أُهْدِيَ)على البناء للمفعول (لِلنَّبِيِّ صلعم جُبَّةُ سُنْدُسٍ) المُهْدي هو: أُكَيْدرُ دُومة. قال ابنُ الأثير: السُّندس: ما رقَّ من الدِّيباج، والإستبرق: غليظه، وقال ابن التِّين: الإستبرق أفضلُ من السُّندس؛ لأنَّه غليظ الدِّيباج، وكلُّ ما غلظ من الحرير كان أفضل من رقيقه.
          (وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ) جملة حالية (فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا) أي: من نفاستها ولطافتها (فَقَالَ) صلعم (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) جمع: منديل، وهو الذي يحمل؛ مشتقٌّ من النَّدل، وهو النَّقل؛ لأنَّه ينقل من يدٍ إلى يدٍ، وقيل: الندل الوسخ، وسعد بن مُعاذ _بضم الميم وبالمعجمة_ الأوسيُّ، سمَّاه رسول الله صلعم سيِّد الأنصار.
          (فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) وفيه إشارةٌ إلى منزلة سعد في الجنَّة، وأنَّ أدنى ثيابه فيها خيرٌ من هذه الجبَّة؛ لأنَّ المناديل في الثِّياب أدناها؛ لأنَّها معدَّة للوسخ والامتهان، فَغَيْرُهُ أفضل منه، وقيل في قوله: ((لمناديل سعد)) ضرب المثل بالمناديلِ / التي تمسح بها الأيدي وينفضُ بها الغبار ويتَّخذ لفافة لجيِّد الثِّياب فكانت كالخادم والثِّياب كالمخدومِ، فإذا كانت المناديل أفضل من هذه الثِّياب أعني جبَّة السُّندس، دلَّ ذلك على عظم عطايا الرَّب جل جلاله؛ قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
          فإن قيل: ما وجه تخصيص سعدٍ ☺ به.
          فالجواب: أنَّه لعلَّ منديله كان من جنس ذلك الثَّوب لونًا ونحوه، أو كان الوقت يقتضِي استمالة سعدٍ، أو كان اللَّامسون المتعجِّبون من الأنصار فقال: ((منديل سيِّدكم خيرٌ منها))، أو كان سعدٌ يحبُّ ذلك الجنس من الثِّياب. وقال صاحب «الاستيعاب»: روي أنَّ جبريل ◙نزل في جنازته معتجرًا بعمامةٍ من إستبرق.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة: فإنَّ فيه قبول الهدية من المشرك؛ لأنَّ الذي أهداها هو أُكيدر دُومة، كما تقدَّم آنفًا.
          والحديث أخرجه المؤلِّف في «صفة الجنة» أيضًا [خ¦3248]، وأخرجه مسلم في «الفضائل».
          2616- (وَقَالَ سَعِيدٌ) هو: ابنُ أبي عروبة (عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلعم ) وأُكيدر _ بضم الهمزة_ مصغَّر أكدر، وهو: ابن عبد الملك بن عبد الجنِّ _بالجيم والنون_ أَعْيَا بن الحارث بن معاوية، ينسب إلى كندة، وكان نصرانيًّا وكان النَّبي صلعم أرسل إليه خالد بن الوليد ☺ في سرية فأسره، وقتل أخاه حسَّان، وقدم به المدينة، فصالحه النَّبي صلعم على الجزية وأطلقه، ذكر ابنُ إسحاق قصَّته مطوَّلة في «المغازي».
          قال الكرمانيُّ: واختلفوا في إسلامه.
          قال في «الجامع»: ذكر البلاذريُّ أنَّه لمَّا قدم على رسول الله صلعم أسلم وعاد إلى قومه، فلمَّا توفي رسول الله صلعم ارتدَّ، فلمَّا سار خالد بن الوليد ☺ من العراق إلى الشَّام قتله.
          وكان أكدر ملك دُومة _بضم الدال_ عند اللُّغوي، وفتحها عند الحديثيِّ، والواو ساكنة، وهي مدينةٌ بقرب تبوك بها نخلٌ وزرع، ولها حصن عاديٌّ على عشر مراحل من المدينة، وثمانٍ من دمشق.
          وتسمَّى دُومة الجندل، والجندل: الحجارة، والدُّومة: مستدار الشَّيء ومجتمعه / كأنَّها سمِّيت به؛ لأنَّ مكانها مجتمعُ الأحجار ومستدارها.
          وروى أبو يعلى بإسنادٍ قويٍّ من حديث قيس بن النُّعمان: أنّه لمَّا قدم أخرج قباء من ديباج منسوج بالذَّهب، فردَّه النَّبي صلعم ، ثمَّ إنَّه وجد في نفسه من ردِّ هديته فرجع به، فقال له النَّبي صلعم : ((ادفعه إلى عمر ☺)) الحديث.
          وفي حديث علي ☺ عند مسلمٍ: أنَّ أُكيدر دُومة أهدى للنَّبي صلعم ثوب حريرٍ، فأعطاه عليًّا فقال: شقِّقه خُمُرًا بين الفواطم.
          وقد ذكر الفواطم في الباب الذي قبل هذا الباب، فيستفاد منه: أنَّ الحلَّة التي ذكرها علي ☺ في الباب الذي قبله هي هذه التي أهداها أكيدر دومة، كما مرَّ.
          وهذا التَّعليق وصله أحمدُ عن روح عن سعيد بن أبي عَروبة، وقال: فيه جبَّة سندسٍ، أو ديباج شكَّ سعيد، وسيأتي بيان ما فيه من التَّخالف مع بقيَّة شرحه في كتاب اللَّباس إن شاء الله تعالى [خ¦5836].
          وأراد البخاريُّ بذكره هنا بيان الذي أهدى ليظهر مطابقته للتَّرجمة، وقد أخرجه مسلمٌ من طريق عمرو بن عامر عن قتادة فقال فيه: إنَّ أكيدر دومة الجندل.