نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها

          2566- (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ) بن عاصمٍ بن صهيب، أبو الحسين الواسطيُّ، مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين، وقد مرَّ في «الصَّلاة» [خ¦366]، قال: (حَدَّثَنَا / ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو: محمد بن أبي ذئبٍ، واسم أبي ذئب: هشام (عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) سعيد بن أبي سعيدٍ نسب إلى مَقبرة المدينة لأجل سكناهُ فيها (عَنْ أَبِيهِ) أبي سعيدٍ كيسان، وسقط في رواية الأصيليِّ وكريمة قوله: <عن أبيه>، وضبَّب عليه في رواية النَّسفيِّ والصَّواب إثباته.
          وكذا أخرجه الإسماعيليُّ: عن محمد بن يحيى، وأبو نُعيم من طريق إسماعيل القاضي، وأبو عَوَانة عن إبراهيم الحربي، كلُّهم عن عاصمِ بن عليٍّ شيخ البخاري فيه.
          ومن طريق شبابة، وعثمان بن عَمرو، وابن المُبارك عند الإسماعيليِّ، وأخرجه البخاريُّ في «الأدب المفرد» عن آدم، كلُّهم عن ابن أبي ذئبٍ كذلك، وكذلك رواه اللَّيث عن سعيدٍ، كما سيأتي في كتاب «الأدب» [خ¦6017].
          وقال الدَّارقطنيُّ: رواه عن ابنِ أبي ذئبٍ يحيى القطَّان، وأبو معشر عن سعيدٍ عن أبي هريرة من غيرِ ذكر أبيه.
          وأخرجه التَّرمذيُّ من طريق أبي مَعْشر عن سعيدٍ عن أبي هريرة لم يُقل عن أبيه، وزاد في أوَّله: ((تهادَوْا فإنَّ الهديَّة تذهب وحر الصَّدر))، وقال: غريبٌ، وأبو معشر: ضعيفٌ.
          وقال الطُّرقيُّ: إنَّه أخطأ فيه حيث لم يقلْ عن أبيه، كذا قال، وقد تابعهُ محمد بن عجلان عن سعيدٍ، وأخرجه أبو عَوَانة، نعم مَن زاد فيه: «عن أبيه» أحفظُ وأضبط، فروايتهم أولى، والله أعلم.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ) ذكر القاضي عياض في إعرابه ثلاثة أوجهٍ: أصحُّها وأشهرها: نصب «النِّساء» وجرُّ «المسلمات» على الإضافة. قال الباجيُّ: وبهذا قد روِّيناه عن جميع شيوخنا بالمَشرق، وهو: من باب إضافة الشَّيء إلى نفسه، والموصوف إلى صفتهِ، والأعمِّ إلى الأخصِّ كمسجد الجامع، وجانب الغربيِّ، وهو عند الكوفيِّين جائزٌ على ظاهره، فإنَّهم يدَّعون أن لا حذف فيه، ويكتفون باختلاف الألفاظِ في المغايرة.
          وأمَّا البصريُّون: فيقدِّرون فيه محذوفًا؛ أي: مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربيِّ، ويقدَّر هنا: يا نساء الأنفسِ المسلمات، أو الجماعاتِ المسلمات، وقيل: تقديره: يا فاضلاتُ المسلمات، كما يُقال: هؤلاء رجال القوم؛ أي: ساداتُهم وأفاضلهم.
          الوجه الثَّاني: رفع «النِّساء» ورفع «المسلمات» على معنى النِّداء والصِّفة؛ أي: يا أيُّها النِّساء المسلمات، قال: كذا يرويه أهل بلدنا، وروي أيضًا عن السُّهيليِّ وغيره. /
          الوجه الثَّالث: رفع «النِّساء» وكسر التَّاء من «المسلماتِ» على أنَّه منصوبٌ على الصِّفة على الموضع، كما يُقال: يا زيد العاقلُ والعاقلَ، بالرفع والنصب.
          قال ابن رشيدٍ: توجيهه أنَّه خاطب نساء بأعيانهنَّ، فأقبل بندائه عليهنَّ فصحَّت الإضافة على معنى المدحِ لهنَّ، فالمعنى: يا خيرات المؤمناتِ، كما يُقال: رجال القوم.
          وتعقِّب: بأنَّه لم يخصصهنَّ به؛ لأنَّ غيرهنَّ تُشاركهنَّ في الحكم.
          وأُجيب: بأنَّهنَّ يشاركنهنَّ بطريق الإلحاق، وأنكر ابن عبد البرِّ رواية الإضافة.
          وردَّه ابن السيِّد بأنَّها قد صحَّت نقلًا، وساعدتها اللُّغة، فلا معنى للإنكار.
          وقال ابن بطَّال: يمكن تخريج يا نساء المؤمنات على تقدير بعيدٍ، وهو: أن يجعلَ الموصوف محذوفًا، كأنَّه قال: يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس: الرِّجال.
          ووجه بعده أنَّه يصير مدحًا للرِّجال، وهو صلعم إنَّما خاطب النِّساء، قال: إلَّا أن يراد بالأنفس الرِّجال والنِّساء معًا، وأطال في ذلك، وتعقَّبه ابن المنيِّر.
          وقد رواه الطَّبرانيُّ من حديث عائشة ♦: ((يا نساء المؤمنين))، الحديث.
          (لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ) الجارة: مؤنَّث الجار، ويقال للزَّوجة: جارةٌ؛ لأنَّها تجاور زوجها في محلٍّ واحدٍ، وقيل: العرب تكنَّى عن الضُّرَّة بالجارة؛ تطيرًا من الضَّرر، ومنه: كان ابن عبَّاس ☻ ينام بين جارتيه.
          (لِجَارَتِهَا) ظاهره المرأة الَّتي تجاور المرأة الَّتي تسمَّى جارة مؤنَّث الجار، وفي رواية أبي ذرٍ: <لجارة> بدون الإضافة. وقال الكِرماني: لجارتها متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ أي: لا تحقِّرنَّ جارة هديَّة مُهداةٌ لجارتها، وبالغ فيه حتَّى ذكر أحقر الأشياء، من أبغضِ البغيضين، إذا حُمِلَ لفظ الجارة على الضرَّة.
          (وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) بكسر الفاء والمهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون، هو عظمٌ قليل اللَّحم، وهو للبعير موضع الحافر من الفرسِ، والظَّلف من الغنم، والقدم من الإنسان، ويُطلق على الشَّاة مجازًا، ونونه زائدةٌ. وقيل: أصليَّة؛ يعني: ولو أنَّها تهدي فِرْسن شاة، والمراد منه: المبالغة في إهداءِ الشَّيء اليسير وقبوله، لا حقيقة الفرسن؛ لأنَّه لم تجر العادة في المهاداة به.
          وهذا النَّهي للمُعطية المُهدية؛ أي: لا تمتنع جارة من الهديَّة لجارتها لاستقلالها واحتقارها للموجودِ عندها، / بل ينبغي أن تجودَ لها بما تيسَّر وإن كان قليلًا، كفِرْسن شاة؛ لأنَّ الجود إنَّما هو بحسبِ الموجود، والوجود خيرٌ من العدم. ويُحتمل أن يكون النَّهي للمهدَى إليها، وأنَّها لا تحتقر ما يُهدى إليها، ولو كان حقيرًا قليلًا، وحملهُ على الأعمِّ من ذلك أولى.
          تنبيهٌ: قال ابن دريدٍ: الفِرْسن هو ظاهرُ الخُفِّ، والجمعُ: فَراسن. وفي «المحكم»: هي ظرف خفِّ البعير، ولا يقال في جمعه: فرسنات، كما قالوا: خناصر، ولم يقولُوا: خنصرات. وفي «المخصص»: هو عند سيبويه فِعْلِن، ولم يحك في الأسماء غيرها.
          وفي «الجامع»: هو من البعيرِ بمنزلة الحافر للدَّابَّة، وقيل: هو خفُّ البعير، وفي «الصحاح»: وربَّما استعير للشَّاة. وقال ابن السَّراج: النون زائدة. وقال الأصمعيُّ: الفِرْسن ما دون الرُّسغ من يدي البعير، وهي مؤنَّث.
          وفي الحديث: الحضُّ على التَّهادي ولو باليسير، لِما فيه من استجلاب المودَّة وإذهاب الشَّحناء والعداوة واصطفاء المعاشرة، ولِما فيه من التَّعاون على أمر المعيشة والهديَّة إذا كانت يسيرةً فهي أدلُّ على المودَّة، وأسقط للمؤنة، وأسهلُ على المهدي لإطراح التَّكلُّف، والكثير قد لا يتيَّسَّر كل وقتٍ والمواصلة باليسير يكون كالكثير.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّ فيه تحريضًا على الخير إلى أحدٍ، ولو كان بشيءٍ حقيرٍ، وهو داخلٌ في معنى الهبة من حيث اللُّغة.
          وشيخه في هذا الإسناد واسطيٌّ، والبقيَّة مدنيُّون.
          والحديث أخرجه مسلم أيضًا عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلعم كان يقول: ((يا نساء المسلمات لا تحقرنَّ جارةٌ جارتها ولو فرسن شاة)).