نجاح القاري لصحيح البخاري

باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها

          ░14▒ (باب) حكم (هِبَةِ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ وَ) هبة (الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: ابن يزيد النَّخعيُّ: هبةُ الرَّجل لامرأته وهبة المرأة لزوجها (جَائِزَةٌ) وهذا الأثر وصله عبد الرَّزَّاق عن الثَّوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: إذا وهبت له أو وهب لها فلكلِّ واحدٍ عطيَّته. ووصله الطَّحَّاوي من طريق أبي عَوانة عن منصورٍ، قال: قال إبراهيم: إذا وهبت المرأة لزوجها أو وهب الزَّوج لامرأته فالهبة جائزةٌ، وليس لواحدٍ منهما أن يرجع في هبته.
          ومن طريق أبي حنيفة عن حمَّاد عن إبراهيم: الزَّوج والمرأة بمنزلة ذي الرَّحم إذا وهب أحدُهما لصاحبه لم يكن له أن يرجعَ.
          (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هو: أحدُ الخلفاء الرَّاشدين، وأحد الزُّهَّاد العابدين (لاَ يَرْجِعَانِ) يعني: لا يرجع الزَّوج على الزَّوجة، ولا الزَّوجة على الزَّوج فيما وهب أحدُهما للآخر. وهذا وصله أيضًا عبد الرَّزَّاق عن الثَّوري، عن عبد الرَّحمن بن زياد: أنَّ عمر بن عبد العزيز، قال مثل قول إبراهيم.
          وقال ابن بطَّالٍ: قال بعضُهم: لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجعَ فيما أعطاها، روي هذا عن شريح والزُّهري والشَّعبيِّ. وذكر عبد الرَّزَّاق عن معمَّر عن أيُّوب عن ابن سيرين: كان شريح إذا جاءته امرأةٌ وهبت لزوجها هبةً ثمَّ رجعت فيها يقول له: بيِّنتك أنَّها وهبتك طيِّبة بها نفسها من غير كرهٍ ولا هَوانٍ، وإلَّا فيمينها ما وهبت بِطيب نفسها إلَّا بعد كرهٍ وهوان. انتهى. فهذا يقتضي: أن ليس لها الرُّجوع إلَّا بهذا الشَّرط عنده.
          (وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلعم نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ) على صيغة البناء للمفعول، من التَّمريض، وهو القيام على المريض في مرضه (فِي بَيْتِ عَائِشَةَ) وهذا التَّعليق وصله البخاريُّ في هذا الباب على ما سيجيءُ إن شاء الله تعالى [خ¦2588]، ووصله أيضًا في آخر «المغازي» [خ¦4442] على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
          ومناسبته للتَّرجمة من حيث إنَّ أزواج النَّبيِّ صلعم وهبنَ له ما استحققنَ عليه من الأيَّام، ولو لم يكن لهنَّ رجوعٌ فيما مضى، وهذا على حمل الهبة / على معناها اللُّغوي.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) وهذا التَّعليق وصله البخاريُّ في باب لا يحلُّ لأحدٍ أن يرجع في هبته [خ¦2622]، وسيأتي بعد خمسة عشر بابًا إن شاء الله تعالى، وهذا الذي علَّقه أخرجه الستَّة إلَّا التِّرمذي أخرجوه عن ابن عبَّاسٍ ☻ ، قال: قال رسول الله صلعم : ((العائدُ في هبته كالعائدِ في قيئهِ)) زاد أبو داود: قال قتادة: ولا نعلم القيء إلَّا حرامًا.
          واحتجَّ بهذا طاوس، وعكرمة، والشَّافعيُّ، وأحمد، وإسحاق: على أنَّه ليس للواهب أن يرجع فيما وهبه، إلَّا الَّذي ينحله الأب لابنه.
          وعند مالك: له أن يرجع في الأجنبيِّ الَّذي قصد منه الثَّواب ولم يثبه، وبه قال أحمد في روايةٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: للواهب الرُّجوع عن هبته من الأجنبيِّ ما دامت قائمةً، ولم يعوض منها، وهو قول سعيد بن المسيِّب، وعمر بن عبد العزيز، وشريح القاضي، والأسود بن يزيدٍ، والحسن البصري، والنَّخعيُّ، والشَّعبي. وروي ذلك عن عمر بن الخطَّاب، وعليِّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وفَضَالة بن عبيد ♥ .
          وأجابوا عن الحديث: بأنَّه صلعم جعل العائد في هبته كالعائد في قيئه من حيث إنَّه ظاهر القبحِ، وبه نقول، فلذلك نقول بكراهة الرُّجوع. ومناسبته للتَّرجمة من حيث إنَّه ذمَّ العائد في هبته على الإطلاق، فدخل فيه الزَّوج والزَّوجة تمسُّكًا بعمومه.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) هو: محمد بن مسلمٍ بن شهابٍ (فِيمَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ هَبِي) أمرٌ للمؤنَّث، من وَهَب يَهَب (لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ) أي: أو قال: هَبِي لي كلَّ الصَّداق (ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا، ثُمَّ لَم يَمْكُثْ (1) حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ) أي: الزُّهريُّ: (يَرُدُّ) أي: الزَّوج الصَّداق (إِلَيْهَا إِنْ كَانَ) أي: الزُّوج (خَلَبَهَا) بفتح الخاء المعجمة واللام والباء الموحدة؛ أي: خدعها، ومنه ما في الحديث من قوله صلعم : / ((إذا بعتَ فقلْ: لا خلابةَ))؛ أي: لا خداع.
          (وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ، جَازَ) فإن قلت: روى عبد الرَّزَّاق عن مَعمر، عن الزُّهري، قال: رأيت القضاة يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجهَا، ولا يقيلون الزَّوج فيما وهب لامرأته فما الجمع بينهما، فالجواب: أنَّ رواية مَعمر عنه هو منقوله، ورواية يونس عنه هو اختيارهُ، وهو التَّفصيل المذكور بين أن يكون خدعها فلها أن ترجعَ أو لا فلا، وهو قول المالكيَّة إن أقامت البيِّنة على ذلك.
          وقيل: يقبل قوله في ذلك مطلقًا، وإلى عدم الرُّجوع من الجانبين مطلقًا ذهب الجمهورُ، وإلى التَّفصيل الَّذي نقل عن الزُّهريِّ ذهب شُريح القاضي، فروى عبد الرَّزَّاق والطَّحاويُّ من طريق محمد بن سيرين: أنَّ امرأةً وهبت لزوجها هبةً، ثمَّ رجعت فيها، فاختصما إلى شُريح، فقال للزَّوج: شاهداك أنَّها وهبت لك من غير كرهٍ ولا هوانٍ، وإلَّا فيمينها لقد وهبت لك عن كرهٍ وهوانٍ.
          وعند عبد الرَّزَّاق بسندٍ منقطعٍ عن عمر ☺ أنَّه كتب: أنَّ النِّساء يعطين رغبةً ورهبةً، فأيُّما امرأةٍ أعطت زوجها فشاءت أن ترجعَ رجعَت.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يردُّ شيئًا إذا خالعها، ولو كان مضرًّا بها؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229].
          (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء:4]) احتجَّ الزُّهريُّ بهذه الآية فيما ذهب إليه، والآية في سورة النِّساء، قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ} الخطاب في قوله: {وَآَتُوا} للنَّاكحين. وقال مقاتلٌ: كان الرَّجل يتزوَّج، ثمَّ يقول: أرثك وترثيني، فتقول: نعم. وقيل: إنَّ الرَّجل كان يُعطي الرَّجل أخته، ويأخذ أخته مكانها من غير مهرٍ، فنُهوا عن ذلك بهذه الآية.
          {صَدُقَاتِهِنَّ} أي: مهورهنَّ، واحدها: صَدُقة _بفتح الصاد وضم الدال_ وهي لغة أهل الحجاز وتميم، تقول: صُدْقة _بضم الصاد وسكون الدال_، فإذا جمعوا قالوا: صُدقات، بضم الصاد وسكون الدال وبضم الدال أيضًا، مثل: ظُلُمات.
          {نِحْلَة} أي: فريضةً مسمَّاةً، والأصل في النِّحلة: العطيَّة، يقال: نحله كذا نِحلة ونُحلة، إذا أعطاه إيَّاها عن طيب / نفسٍ بلا توقُّع عوض، وبالفريضة المسمَّاة فسَّره قتادة، وابن جريجٍ ومقاتل. وعن ابن عبَّاس ☻ : النِّحلة: المهر. وقال ابن زيد: النِّحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا ينكحها إلَّا بشيءٍ واجبٍ لها، وليس ينبغي لأحدٍ بعد النَّبيِّ صلعم أن ينكح امرأةً إلَّا بصداقٍ واجبٍ.
          ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حقٍّ، وقيل: النِّحلة: الدِّيانة والملَّة من قولهم: انتحل فلانٌ كذا، إذا دان به، والتَّقدير: وآتوهنَّ صدقاتهنَّ ديانةً؛ أي: دينًا من الله شرعه.
          وفيه لغتان: كسر النون وضمُّها، وانتصابها على المصدر أو على الحالِ.
          وقال الزَّمخشريُّ: المعنى آتوهنَّ مهورهنَّ ديانةً على أنَّه مفعول له. ويجوز أن يكون حالًا من المخاطبين؛ أي: ناحلين طيِّبي النُّفوس بالإعطاء، أو من الصَّدُقات؛ أي: منحولةٌ معطاةٌ عن طيب الأنفس والخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء؛ لأنَّهم كانوا يأخذون مهورَ مولياتهم، وكان يقولون: هنيئًا لك النَّافجة، لمن يولد له بنتٌ، يعنون تأخذ مهرها فتنفج بها مالك؛ أي: تعظِّمه.
          {فَإِن طِبْنَ لَكُم} يعني: النِّساء المنكوحات أيُّها الأزواج {عَن شَيءٍ مِنهُ} أي: من الصَّداق حملًا على المعنى. وقال الزَّمخشريُّ: الضَّمير في {مِنهُ} جارٍ مجرى اسم الإشارة، كأنَّه قيل عن شيءٍ من ذلك، وقيل: للإيتاء، وعدَّاه بعن لتضمين معنى التَّجافي والتَّجاوز، وقال: منه بعثًا لهنَّ على تقليل الموهوب.
          {نَفَسًا} نصب على التمييز، وإنَّما وحِّد لأنَّ الغرض بيان الجنس، والواحد يدلُّ عليه، والمعنى: فإن وهبن لكم شيئًا من الصَّداق ونحلت عن نفوسهنَّ طيِّبات غير مخبثات بما يضطرُّهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء مُعاشرتكم.
          {فَكُلُوهُ} فأنفقوه، قالوا: فإن وهبت له ثمَّ طلبت منه بعد الهبة عُلم أنَّها لم تطب منه نفسًا. وعن الشَّعبي: أنَّ رجلًا أتى مع امرأته شريحًا في عطيَّةٍ أعطتها إيَّاه، وهي تطلبُ أن ترجعَ، فقال شريح: ردَّ عليها، فقال الرَّجل: أليس قد قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} [النساء:4] قال: لو طابتْ نفسها عنه لَما رجعتْ فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيلُه؛ لأنهنَّ يُخْدَعن.
          وحكي أنَّ رجلًا من آل أبي مُعَيط أعطتْه امرأته ألف دينارٍ صداقًا كان لها عليه، / فلبث شهرًا ثمَّ طلَّقها، فخاصمتْه إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرَّجل: أعطتني طيِّبةً بها نفسها، فقال عبدُ الملك: فأين الآية الَّتي بعدها: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] أُرْدُدْ عليها.
          وعن عمر ☺ أنَّه كتب إلى قضاته: إنَّ النِّساء يعطين رغبةً ورهبةً، فأيُّما امرأةٍ أعطت ثمَّ أرادت أن ترجع فذلك لها.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ رسول الله صلعم سئل عن هذه الآية، فقال: إذا جاءت لزوجها بالعطيَّة طائعةً غير مكرهةٍ لا يقضي به عليكم سلطانٌ، ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة.
          وروي أنَّ ناسًا كانوا يتأثَّمون أن يرجع أحدهم في شيءٍ ممَّا ساق إلى امرأته، فقال الله تعالى: {إِن طَابَت} نفسٌ واحدةٌ من غير إكراهٍ ولا خديعةٍ.
          {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] نعتٌ لمصدر محذوفٍ؛ أي: أكلًا هنيئًا مريئًا، أو حالٌ من الضَّمير؛ أي: كلوه وهو هنيءٌ مريءٌ، وقد يوقف على {فَكُلُوهُ} ويبتدأ {هَنِيئًا مَرِيئًا} على الدُّعاء.
          والهنيء والمريء: صفتان من هَنُؤ الطَّعامُ ومَرُؤ، إذا كان سَائغًا لا تنغيصَ فيه. وقيل: الهنيءُ ما يلذَّه الآكل، والمريءُ ما يحمد عاقبته، وقيل: هو ما ينساغُ في مجراه. وقيل: لمدخل الطَّعام من الحلقوم إلى فم المعدةِ المريء؛ لمروء الطَّعام فيه، وهو انسياغُه. وقيل: الهنيء ما يؤمن عاقبته، وقيل: ما أورثَ نفعًا وشفاءً.
          وقيل: الطَّيب المساغ الَّذي لا ينغِّصه شيءٌ، وهو مأخوذٌ من هنأتُ البعير، إذا عالجته بالقطران من الجرب. والمعنى: فكلوه دواءً شافيًا. والمريء: المحمود العاقبة، التَّام الهضم، الَّذي لا يضرُّ ولا يُؤذي، والمعنى على كلِّ حالٍ: فخذوهُ وأنفقوه حلالًا بلا تبعةٍ.


[1] قوله: ((ثم لم يمكث)) ليس في (خ).