نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة

          ░37▒ (بابٌ) بالتنوين (إِذَا حَمَلَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ) أي: تصدَّق به ووهبه؛ لأن يقاتل عليه في سبيل الله (فَهْوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ) أي: فحكمه كحُكم العُمرى والصَّدقة؛ يعني: لا رجوع فيه، كما لا رجوع في العُمرى والصَّدقة، فإنَّه يراد به وجه الله تعالى فنفعَ جميع العين لله تعالى، وإنَّما تصير للفقير نيابةً عن الله ╡ بحكم الرِّزق الموعود فلا يبقى محلٌّ للرجوع، ولكنَّ إطلاق الترجمة لا يساعد ما ذهب إليه البخاريُّ؛ لأنَّ المراد بالحملِ على الفرس إن كان قوله: هو لك يكون تمليكًا.
          قال ابن بطَّال: فهو كالصَّدقة، فإذا قبضها لم يجز الرجوع فيها، وإن كان مراده التَّحبيس في سبيل الله، قال ابن بطَّال: هو كالوقف، لا يجوز الرُّجوع فيه عند الجمهور، وعند أبي حنيفة أنَّ الحبس باطلٌ في كلِّ شيءٍ.
          وقال الداوديُّ: قول البخاري هو كالعمرى والصَّدقة تحكُّمٌ من غير تأمُّل، وقول من ذكر من الناس أصحَّ؛ لأنَّهم يقولون المسلمون على شروطهم.
          وقال العينيُّ: عند الحنفية قول الرَّجل حملتك على هذا الفرس لا يكون هبة إلَّا بالنيَّة؛ لأن الحمل هو الإركاب حقيقةً فيكون عارية، ولكنَّه يحتمل الهبة، يقال: حملُ الأمير فلانًا على الفرس معناه: ملَّكه إيَّاه فيحمل على التَّمليك عند نيَّته؛ لأنَّه نوى ما يحتمله لفظه.
          وأمَّا قول أبي حنيفة: إنَّ الحبسَ باطلٌ ليس في شيءٍ معيَّنٍ، وإنَّما هو عام كما قال ابن بطَّال ناقلًا عنه أنَّ الحبس باطلٌ في كلِّ شيءٍ، وليس هو منفردًا بهذا القول، وقد قال شريحُ القاضي بذلك قبله، والله أعلم.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) أراد بهذا البعض أبا حنيفة ☼ ، / وإنما قال: له أن يرجع فيها؛ لأنَّه قد مرَّ أنَّه إن أراد بالحمل التَّحبيس يكون وقفًا والوقف غير لازمٍ عنده، ثمُّ إطلاق كلامه ونسبة الرُّجوع إلى أبي حنيفة في هذه الصُّورة خاصَّةً ليس في محلِّه؛ لأنَّه يرى بطلان الوقف الغير المحكوم به، ويرى جواز رجوعِ الواهب في هبته إلَّا في مواضع معيَّنة، كما عرف في كتب الفُرُوع.
          وقال الكرمانيُّ نقلًا عن ابن بطَّال: وخالف فيه _أي: في حكم حمل الرَّجل على فرس_ أبو حنيفة ☼ ، وجعل الحبس باطلًا.
          ولهذا قال البخاريُّ: وقال بعضُ النَّاس: له أن يرجعَ فيها، والحديث يردُّ عليه، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّا لا نسلم أنَّ الحديث يرد عليه؛ لأنَّ معنى الحمل عنده ما مرَّ من أنَّه عارية، والخصمُ أيضًا يقول: إنَّ للمعير أن يرجعَ في عاريته هذا.