نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قبول الهدية من المشركين

          ░28▒ (باب) جواز (قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وكأنَّه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في ردِّ هدية المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عقبة في «المغازي» عن ابن شهاب، عن عبد الرَّحمن بن كعب، ورجالٌ من أهل العلم: أنَّ عامر بن مالك الذي يدعى مُلاعب الأسنَّة قدم على رسول الله صلعم / وهو مشركٌ، فأهدى له، فقال: ((إنِّي لا أقبل هديَّة مُشرك)) الحديث، ورجاله ثقاتٌ؛ إلَّا أنهَّ مرسل، وقد وصله بعضُهم عن الزُّهري، ولا يصح.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺: عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه قال: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ ◙بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ) شكٌّ من الرَّاوي (فَقَالَ: أَعْطُوهَا آجَرَ) سارة _بتخفيف الراء_ زوجة إبراهيم أم إسحاق ♂، وآجر: بوزن فاعل، وفي رواية: <هاجر> فقلبت الهمزة هاء: أمُّ إسماعيل ◙.
          ذكر هذا التَّعليق مختصرًا، وقد أخرجه موصولًا في كتاب «البيوع»، في باب شراء المملوك من الحربي [خ¦2217]، وتقدَّم الكلام فيه هناك، وأخرجه موصولًا أيضًا في «أحاديث الأنبياء ‰» [خ¦3357]، ووجه دلالته على التَّرجمة ظاهرٌ، وهو مبنيٌّ على أنَّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيَّما إذا لم يرد في شرعنا إنكاره.
          وقصَّته على ما قال علماء السِّير: أنَّ إبراهيم ◙أقام بالشَّام مدَّة فقحط الشَّام، فسار إلى مصر ومعه سارة ولوط ‰، وكان بها فرعون وهو أوَّل الفراعنة عاشَ دهرًا طويلًا، واختلفوا فيه فقال قومٌ: هو سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عملان بن لاوي بن سام بن نوح ◙، وقيل: سنان بن الأهبوب أخو الضَّحاك وهو الذي بعثه إلى مصر وأقام بها، وقيل: عمرو بن امرئ القيس بن نابليون بن سبأ، وقيل: طوليس.
          وكانت سارة من أجمل النِّساء، وكانت لا تعصي لإبراهيم ◙شيئًا، فلذلك أكرمها الله تعالى، فأتى الجبَّار رجل وقال: إنَّه قدم رجل ومعه امرأةٌ من أحسن النِّساء ووصف له حسنها وجمالها، فأرسل الجبار إلى إبراهيم ◙ فقال: ما هذه المرأة معك؟ قال: هي أختي، وخاف إن قال امرأتي أن يقتله، فقال له: زيِّنها وأرسلها إليَّ ولا تمتنع حتَّى أنظر إليها، فرجع إبراهيم ◙ إلى سارة، وقال لها: إنَّ هذا الجبار قد سألني عنكِ وأخبرته أنَّك أختي فلا تكذِّبيني عنده، فإنَّك أختي في كتاب الله، / وإنَّه ليس في هذه مسلمٌ غيري وغيرك ولوط، ثمَّ أقبلت سارة إلى الجبَّار، وقام إبراهيم ◙يصلِّي فلمَّا دخلت عليه ورآها، فتناولها بيده، فيبستْ إلى صدره، فلمَّا رأى ذلك فرعون أعظم أمرها، وقال لها: سلِي إلهكِ أن يُطلق عنِّي فوالله لا أؤذيك، فقالت سارة: اللَّهمَّ إن كان صادقًا فأطلقْ له يده، فأطلق الله له يده.
          وقيل: فعل ذلك ثلاث مراتٍ فلمَّا رأى ذلك ردَّها إلى إبراهيم، ووهب لها هاجر، وهي التي ذكرت في حديث الباب: آجر، وهي لغة في هاجر كما تقدَّم، فأقبلت سارة إلى إبراهيم ◙، فلمَّا أحسَّ بها انفتلَ من صلاته، فقال: مهيم؟ فقالت: كفى الله كيدَ الفاجرِ وأَخْذَ مَني هاجر.
          واختلفوا في هاجر: فقال مقاتل: كانت من ولد هود ◙، وقال الضَّحَّاك: كانت بنت ملك مصر، وكان الملك ساكنًا بمنف، وغلبه ملك آخر.
          وقيل: إنَّما غلبه فرعون فقتله وسبى ابنته فاسترقها، ووهبها لسارة، ووهبتها سارة لإبراهيم ◙، فواقعها إبراهيم ◙فولدت إسماعيل ◙، وسارة بنت هاران أخ إبراهيم ◙.
          قال ابن كثير: والمشهور أنَّ سارة بنت عمِّه هاران أخت لوط ◙كما حكاه السُّهيلي، ومن ادَّعى أنَّ تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعًا فليس له على ذلك دليلٌ، ولو فرض أنَّه كان مشروعًا وهو منقولٌ عن الربانيين من اليهود كان الأنبياء ‰ لا يتعاطونه.
          وقال السُّدي: وكانت سارة بنت ملك حرَّان، وكان قد بلغها خبر الخليل ◙فآمنت به، وعابت على قومها عبادة الأوثان، فلمَّا قدم الخليل حرَّان تزوَّجته، وذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة: سارة، وأم موسى، ومريم، والذي عليه الجمهور: أنهنَّ صدِّيقات.
          (وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلعم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ)يأتي حديث هذه الهدية في هذا الباب موصولًا، ويأتي الكلام فيه هناك إن شاء الله تعالى.
          (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) بضم المهملة، السَّاعدي الأنصاري ☺، / قيل: اسمه عبد الرَّحمن، وقيل غير ذلك (أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ) بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، بلدةٌ معروفة بساحل البحر في طريق المصريين إلى مكَّة آخر الحجاز وأول الشَّام، وهي الآن خراب (لِلنَّبِيِّ صلعم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ) النَّبي صلعم (بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ) أي: ببلدهم وحكومة أرضهم وديارهم، وهذا هو الظَّاهر، وحمله الدَّاودي على ظاهره وهو وهمٌ.
          وهذا التَّعليق مضى مطوَّلًا في كتاب «الزكاة»، في باب خرص التَّمر [خ¦1481].
          قال المهلَّب: وفيه مكافأة المشرك على هديته؛ لأنَّه صلعم أهدى له بردًا، وجواز تأمير المشرك الذِّمِّي على قومه؛ لما في ذلك من طوعهم له وانقيادهم.
          وفيه: تولية البحر، وجواز نسبة الفعل إلى الآمر لقوله: وكتب، ورسول الله صلعم لم يكتب.