نجاح القاري لصحيح البخاري

باب هبة المرأة لغير زوجها

          ░15▒ (باب) حكم (هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا) بأن وهبت شيئًا لغير زوجها (وَعِتْقُهَا) عطف على قوله: هبة المرأة؛ أي: وحكم عتقُ المرأة جاريتها أو عبدها (إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ) ليست للشَّرط، بل ظرفٌ لِما تقدَّم؛ لأنَّ الكلام فيما إذا كان لها زوجٌ وقت الهبة من الهبة أو العتق أو المراد العتق، ويُقاس عليه الهبة، أو المراد كلُّ واحدٍ منهما.
          (جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ) المرأة (سَفِيهَةً) وهي: ضدُّ الرَّشيدة، والرَّشيدة: مَن صلح دينها ودنياها (فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ذكر هذا في معرضِ الاستدلال، قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهد، والحكم: السُّفهاء الَّذين ذكرهم الله تعالى هنا اليتامى والنِّساء. وعن الحسن: المرأة والصَّبيُّ، وفي لفظٍ: الصِّغار والنِّساء أسفه السُّفهاء. وفي لفظٍ: ابنك السَّفيه، وامرأتك السَّفيهة. وقد ذكر أنَّ رسول الله صلعم قال: ((اتَّقوا الله في الضَّعيفين اليتيم والمرأة)). وقال ابن مسعود ☺: النِّساء والصِّبيان. وقال السدِّي: الولد والمرأة. وقال الضَّحَّاك: الولد والنِّساء أسفه السُّفهاء فيكونوا عليكم أربابًا. وعن ابن عبَّاسٍ ☻ : امرأتك وبنتك، قال: وأسفه السُّفهاء، الولدان والنِّساء.
          قال الطَّبريُّ وغيره: إنَّهم الصِّبيان خاصَّةً، وقيل: بل عنى من ذلك السُّفهاء من ولد الرَّجل، وقيل: بل عنى من ذلك النِّساء خاصَّةً، فذكر المعتمر بن سليمان عن أبيه، قال: زعم حضرمي أنَّ رجلًا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحقِّ، فقال الله ╡: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5].
          وقال ابن أبي حاتمٍ: حَدَّثَنَا أُبي، حَدَّثَنَا هشام بن عمَّارٍ، حَدَّثَنَا صدقة بن خالدٍ، حَدَّثَنَا عثمان بن أبي العاتكة، عن عليِّ بن يزيدَ عن القاسم، عن أبي أمامة ☺، قال: قال رسول الله صلعم : ((إنَّ النِّساء السُّفهاء إلَّا الَّتي أطاعت قيمها)) ورواه ابن مردويه مطوَّلًا.
          وقال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن مسلم بن إبراهيم: حَدَّثَنَا حرب بن شُريح، عن معاوية بن قرَّة، عن أبي هريرة ☺ {وَلَا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُمُ}، قال: الخدم، وهم شياطينُ الإنس.
          وفي «التوضيح»: من قال: عنى بالسُّفهاء النِّساء / خاصَّةً، فإنَّه حمل اللَّفظ على غير وجهه، وذلك لأنَّ العرب لا تكاد تجمع فعيلًا على فعلاء إلَّا في جمع الذُّكور أو الذُّكور والإناث، فأمَّا إذا أرادوا جمع الإناث خاصَّةً لا ذكور معهنَّ جمعوه على فعائلَ وفعيلات، مثل: غريبةٍ تجمع على غرائب وغريبات، فأمَّا الغرباء: فهو جمع غريب.
          وقال القاضي البيضاويُّ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُمُ} نهيٌ للأولياء عن أن يؤتوا الَّذين لا رشد لهم أموالهم فيضيِّعوها، وإنَّما أضاف المال إلى الأولياء؛ لأنَّها في تصرُّفهم وتحت ولايتهِم، وهو الملائمُ للآيات المتقدِّمة والمتأخِّرة.
          وقيل: هي نهيٌ لكلِّ أحدٍ أن يعمدَ إلى ما خوَّله الله تعالى من المال، فيُعطي امرأته وأولاده، ثمَّ ينظر إلى أيديهم، وإنَّما سمَّاهم سفهاء استخفافًا بعقلهم، واستهجانًا لجعلهم قوَّامًا على أنفسهم، وهو أوفق؛ لقوله:
          {الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُم قِيَامًا}؛ أي: تقومون بها وتتعيَّشون، وعلى الأوَّل يؤوَّل بأنَّها الَّتي من جنس ما جعل الله لكم قيامًا، سمَّى ما به القيام قيامًا، للمبالغة.
          {وَارزُقُوهُم فِيهَا وَاكْسُوهُم} واجعلوها مكانًا لرزقهم وكِسوتهم، بأن تتَّجروا فيها وتحصِّلوا من نفعها ما يحتاجون إليه.
          {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] عِدَّة جميلة تطيب بها نفوسهم، والمعروف: ما عرَّفه الشَّرع أو العقل بالحسنِ، والمنكر: ما أنكره أحدهما لقبحهِ، انتهى.
          وقال صاحب «التوضيح»: وكأنَّ البخاري أراد بالتَّبويب وما فيه من الأحاديث الرَّدِّ على من خالف ذلك، روى حبيب المعلِّم عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لمَّا فتح مكَّة: ((لا يجوز عطيَّة امرأةٍ في مالها إلَّا بإذن زوجها)) أخرجه النَّسائيُّ.
          وقد اختلف العلماء في المرأة المالكة لنفسها الرَّشيدة ذات الزَّوج على قولين:
          أحدهما: أنَّه لا فرق بينها وبين البالغ الرَّشيد في التَّصرُّف، وهو قول الثَّوري، والشَّافعي، وأبي ثورٍ، وأصحاب الرَّأي.
          والقول الآخر: لا يجوز لها أن تعطي من مالها شيئًا بغير إذن زوجها، روي ذلك عن أنسٍ، وطاوس، والحسن البصري.
          وقال اللَّيث: / لا يجوز عتق المزوَّجة وصدقتها إلَّا في الشَّيء التَّافه اليسير الذي لا بدَّ منه من صلة الرَّحم، أو ما يتقرَّب به إلى الله تعالى.
          وقال مالكٌ: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدةً، إلَّا من ثلث مالها خاصَّةً؛ قياسًا على الوصيَّة.
          وأدلة الجمهور من الكتاب والسُّنَّة كثيرة.
          قال ابن بطَّالٍ: وأحاديث الباب أصحُّ، وحملها مالكٌ على الشَّيء اليسير، وجعل حدَّه الثُّلث فما دونه.