نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا وهب هبةً أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه

          ░18▒ (بابٌ) بالتنوين (إِذَا وَهَبَ) الرَّجل (هِبَةً) لآخر (أَوْ وَعَدَ) وفي رواية الكُشْمِيهَنيِّ: <أو وعد عدة> (ثُمَّ مَاتَ) أي: الذي وهب أو وعد (قَبْلَ أَنْ تَصِلَ) الهبة (إِلَيْهِ) أي: إلى الموهوب له أو الموعودِ له، ويجوز أن يكون الضَّمير في مات راجعًا إلى الَّذي وهب له، وجواب «إذا» محذوفٌ، ولم يظهره؛ لأجل الخلاف فيه. وبيان ذلك: أنَّ التَّرجمة مشتملةٌ على شيئين:
          أحدهما: الهبة، والآخر: الوعد.
          أمَّا الهبة: فالشَّرط فيها القبض عند أكثر التَّابعين والفقهاء، وهو قول أبي حنيفة، والشَّافعي، وأحمد، إلَّا أنَّ أحمد يقول: إذا كانت الهبة عينًا تصحُّ بدون القبض في الأصحِّ، وفي المكيل والموزون لا تصحُّ بدون القبض.
          وعند مالكٍ: يثبت الملك فيها قبل القبض اعتبارًا بالبيع، وبه قال أبو ثورٍ والشَّافعيُّ في القديم، وهو قول ابن أبي ليلى. وفي كتاب «التَّفريع» لأصحاب مالكٍ: ومن وهب شيئًا من ماله لزمه دفعه إلى الموهوب له إذا طالبه به، فإن أَبى ذلك حكم به عليه إذا أقرَّ أو قامت عليه البيِّنة، وإن أنكر حلف عليها وبرئ منها، وإن نكلَ عن اليمين حلف الموهوب له فيأخذها منه، وإن مات الواهبُ قبل دفعها إلى الموهوبِ له فلا شيءَ له إذا كان قد أمكنهُ أخذها ففرط فيها، وإن مات الموهوب له قبل قبضها قام ورثتهُ مقامه في طلب الواهب بهبتهِ. واستدلَّ أصحابنا وأصحاب الشَّافعي في اشتراط القبض بحديث عائشة ♦ أنَّ أبا بكرٍ ☺ نحلها جذاذ عشرين وسقًا. الحديث ذكر عن قريبٍ.
          واستدلَّ صاحب «الهداية» في ذلك بقوله: ولنا قوله صلعم : ((لا يجوز الهبة إلَّا مقبوضةً)).
          قلت: هذا حديثٌ منكرٌ لا أصل له، بل هو من قول إبراهيم النَّخعي، رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه»، وقال: أخبرنا سفيان الثَّوري: عن منصور عن إبراهيم قال: لا تجوز الهبةُ حتى تُقبض، والصَّدقة تجوز قبل أن تقبضَ.
          وأمَّا الوعد: فاختلف الفقهاء فيه: فقال أبو حنيفة وأصحابه، والشَّافعيُّ، والأوزاعيُّ: لا يلزم من العِدة شيءٌ؛ لأنَّها منافع / لم تقبض فلصاحبها الرُّجوع فيها.
          وقال مالكٌ: أمَّا العِدة؛ مثل أن يسأل الرَّجلُ الرَّجلَ أن يهب له هبةً، فيقول: نعم، ثمَّ يبدو له أن لا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه، قال: ولو كان في قضاء دينٍ فسأله أن يقضي عنه، فقال: نعم، وَثَمَّ رجالٌ يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
          وقال سحنون: الذي يلزمه في العِدة في السَّلف والعارية أن يقول الرَّجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما بيَّنها (1) به، أو اخرُج إلى الحجِّ وأنا أسلفك، أو اشترِ سلعةَ كذا، أو تزوَّج وأنا أسلفك؛ كلُّ ذلك ممَّا يدخله فيه وينشبه به، فهذا كلُّه يلزمه، وأمَّا أن يقول: أنا أسلفك، أو أعطيك فليس بشيءٍ، وقال أصبغُ: يلزمه في ذلك ما وعد به.
          (وَقَالَ عَبِيدَةُ) بفتح المهملة وكسر الموحدة، هو: ابن عمرو السَّلْمانيُّ _بفتح السين المهملة وسكون اللام_ الحضرميُّ (إِنْ مَاتَ) أي: المُهدِي والمُهدَى إليه (وَكَانَتْ فُصِلَتِ) على البناء للمفعول (الْهَدِيَّةُ) بالصاد المهملة، من الفصل، والمراد منه القبض، ويروى: ووصلت الهديَّة من الوصول، فالوصل بالنَّظر إلى المهدى إليه والفصل بالنَّظر إلى المهدي، إذ حقيقة القبض لا بدَّ لها من فصل الموهوب عن الواهب ووصله إلى الموهوب له.
          (وَالْمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهْيَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهْيَ لِوَرَثَةِ الَّذِي أَهْدَى) وتفصيلهُ بين أن يكون انفصلت أم لا مصيرٌ منه إلى أن قَبْضَ الرَّسولِ يقوم مقام قبض المُهدى إليه، وذهب الجمهور إلى: أن الهديَّة لا تنتقل إلى المهدى إليه إلَّا بأن يقبضها هو أو وكيله.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصريُّ: (أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ) أي: أي واحدٍ من المهدي والمهدى إليه مات قبل الآخر (فَهْيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ) أي: الهديَّة لورثة المهدى له (إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ) قال ابن بطَّال: إن كان بعث المهدي مع رسوله فمات الَّذي أهديت إليه فإنَّها ترجع إليه، وإن كان أرسل بها مع رسول الَّذي أهديت إليه فمات المُهدى إليه فهي لورثته، هذا قول الحكم، وأحمد، وإسحاقَ.
          وقال ابن بطَّالٍ: وقول مالكٍ كقول الحسن، وفي معنى قول عبيدةَ وتفصيله حديثٌ رواه أحمد والطَّبرانيُّ عن أمِّ كلثوم بنت أبي سلمةَ وهي بنت أمِّ سلمة، قالت: لمَّا تزوَّج النَّبيُّ صلعم أمَّ سلمة قال لها: ((إنِّي قد أهديتُ إلى النَّجاشيِّ / حلَّةً وأواقي من مسكٍ، ولا أرى النَّجاشيَّ إلَّا قد مات، ولا أرى هديَّتي إلَّا مردودة عليَّ، فإن رُدَّت عليَّ فهي لك)) قال: فكان كما قال؛ الحديثَ، وإسناده حسنٌ.


[1] في كتاب عمدة القاري: ((تبنيها)).