نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا أسلم على يديه

          ░22▒ (باب: إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ) كذا في رواية النَّسفي؛ أي: إذا أسلم رجلٌ على يدي رجلٍ، وفي رواية الفَرَبْري: <إذا أسلم رجلٌ> وفي رواية الكُشميهني: <إذا أسلم على يديه الرَّجل> بالألف واللام، وبدونهما أولى.
          واختلف العلماء فيمن أسلم على يد رجلٍ من المسلمين، فقال الحسن والشَّعبي: لا ميراث للَّذي أسلم على يديه، وولاؤه للمسلمين إذا لم يدع وارثًا، ولا ولاء للَّذي أسلم على يديه، وهو قول ابن أبي ليلى والثَّوري ومالكٍ والأوزاعي والشَّافعي وأحمد، وحجَّتهم حديث الباب، وذكر ابن وهبٍ عن عمر بن الخطَّاب ☺ قال: لا ولاء للَّذي أسلم على يديه، وكذا رُوي عن ابن مسعودٍ وزياد بن أبي سفيان.
          ورُوي عن النَّخعي وأيُّوب: أنَّ ولاءه للَّذي أسلم على يديه، وأنَّه يرثه ويعقل عنه، وله أن يحوِّل عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
          (وَكَانَ الْحَسَنُ) البصريُّ (لاَ يَرَى لَهُ) أي: للَّذي أسلم على يديه / رجلٌ (وِلاَيَةً) بكسر الواو، وفي رواية أبي ذرٍّ: بفتحها، وفي روايته عن الكُشميهني: <وَلاء> بفتح الواو والهمز بدل الياء وبالمد، وأثر الحسن هذا وصله سفيان الثَّوري في «جامعه» عن مطرفٍ عن الشَّعبي وعن يونس، هو: ابنُ عبيد، عن الحسن قال في الرَّجل يوالي الرَّجل، قال: لا هو بين المسلمين.
          قال سفيان: وبذلك أقول، وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان أيضًا، ورواه الدَّارمي عن أبي نُعيم عن سفيان أيضًا، وأخرج ابنُ أبي شيبة أيضًا من طريق يونس عن الحسن: لا يرثه إلَّا إن شاء أوصى له بماله.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) احتجَّ به الحسن، وقال: قال النَّبي صلعم : ((الولاء لمن أعتق)) يعني: أنَّ الولاء لا يكون إلَّا للمعتق، فخرجَ به من أسلم على يديه رجلٌ على أنَّ في الرِّواية الأخرى: ((إنَّما الولاء لمن أعتق)).
          (وَيُذْكَرُ) بضم أوله وفتح ثالثه على البناء للمفعول (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) هو: ابن أوس بن خارجة بن سواد اللَّخمي نسبة إلى بني الدَّار من لخم، وكان من أهل الشَّام، ويتعاطى التِّجارة في الجاهليَّة، وكان يهدي للنَّبي صلعم فيقبل منه، وقد حدَّث النَّبي صلعم أصحابه وهو على المنبر عن تميم بقصَّة الجساسة والدَّجال، وعُدَّ ذلك من مناقبه، أسلم سنة تسعٍ من الهجرة، وكان من أفاضل الصَّحابة وله مناقب، وهو أوَّل من أسرج المساجد، وأوَّل من قصَّ على الناس، أخرجهما الطَّبراني، وسكن بيت المقدس، ومات سنة أربعين.
          (رَفَعَهُ) بالحركات الثَّلاث، وفي رواية أبي ذرٍّ: <رفْعُه> بسكون الفاء وضم العين، ويُروى: رفعه على صيغة الماضي؛ أي: رفع تميم الحديث إلى النَّبي صلعم ، ومعنى «رفعه» مثل معنى قوله: قال رسول الله صلعم .
          وقد وصله البخاريُّ في «تاريخه»، وأبو داود وابن أبي عاصمٍ والطَّبراني والباغندي في «مسند عمر بن عبد العزيز» تأليفه كلُّهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله من مَوْهب عن تميم الدَّاري (1) قال: سألت رسول الله صلعم ما السُّنة في الرَّجل يُسْلِم على يدي رجلٍ من المسلمين. وفي رواية النَّسائي قال: سألت رسول الله صلعم عن الرَّجل من المشركين أسلم على يدي الرَّجل من المسلمين.
          (قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ) أي: بحياته بالنُّصرة، وفي مماته؛ أي: في موته بالغسل والتَّكفين والصَّلاة عليه لا في ميراثه؛ لأنَّ الولاء لمن أعتق، والمحيا والممات مصدران ميميان، قال البخاريُّ: (وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ) أي: في خبر تميم الدَّاري المذكور. فقال البخاريُّ: / قال بعضهم: عن ابن مَوْهب سمع تميمًا ولا يصحُّ؛ لقول النَّبي صلعم : ((الولاء لمن أعتق)).
          وقال الشَّافعي: هذا الحديث ليس بثابتٍ، إنَّما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن مَوْهب، وابن مَوْهب ليس بالمعروف، ولا نعلمه لقي تميمًا، ومثل هذا لا يثبت، وقال الخطَّابي: ضعَّف هذا الحديث أحمد، وقال التِّرمذي: إسناده ليس بمتَّصلٍ. قال: وأدخل بعضهم بين ابن مَوْهب وبين تميم قبيصة رواه يحيى بن حمزة، وقيل: إنَّه تفرَّد بذكر قبيصة، وقد رواه أبو إسحاق السَّبيعي عن ابن مَوْهب بدون ذكر تميمٍ، رواه النَّسائي أيضًا.
          وقال ابن المنذر: هذا الحديث مضطربٌ هل هو عن ابن مَوْهب عن تميم، أو بينهما قبيصة، وقال بعض الرُّواة فيه: عن عبد الله بن مَوْهب، وبعضهم ابن موهبٍ، وعبد العزيز راويه ليس بالحافظ، وقال بعضهم: ابن مَوْهبٍ لم يدرك تميمًا.
          وقد أشار النَّسائي إلى أنَّ الرِّواية الَّتي وقع التَّصريح فيها بسماعه من تميم خطأٌ، ولكن وثَّقه بعضُهم، وكان عمر بن عبد العزيز ولَّاه القضاء بفلسطين، ونقل أبو زرعة الدِّمشقي في «تاريخه» بسندٍ له صحيحٌ عن الأوزاعي: أنَّه كان يدفع هذا الحديث، ولا يرى له وجهًا.
          وقد صحَّح هذا الحديث أبو زرعة الدِّمشقي، وقال: هو حديثٌ حسنُ المخرج متَّصلٌ، وردَّ على الأوزاعي فقال: وليس كذلك، ولم أر أحدًا من أهل العلم يرفعه، وأخرجه الحاكم من طريق ابن مَوْهب عن تميمٍ، ثمَّ قال: صحيحٌ على شرط مسلم، وأخرجه الأربعة في «الفرائض».
          وممَّا يؤيِّد صحَّة حديث تميمٍ ☺ ما رواه ابن جرير الطَّبري في «التَّهذيب»، وروى خصيف عن مجاهدٍ قال: جاء رجلٌ إلى عمر ☺ فقال: إنَّ رجلًا أسلم على يدي، ومات وترك ألف درهمٍ، فلمن ميراثه؟ قال: أرأيت لو جنى جناية من كان يعقل عنه؟ قال: أنا، قال: فميراثه لك، ورواه مسروقٌ عن ابن مسعودٍ ☺، وقاله إبراهيم وابن المسيَّب ومكحول وعمر بن عبد العزيز.
          وفي «الاستذكار»: هو قول أبي حنيفة / وصاحبيه وربيعة، وفي «فتح الباري»: وقال حمَّاد وأبو حنيفة وأصحابه، ورُوي عن النَّخعي أيضًا: أنَّه يستمرُّ إن عقل عنه، وإن لم يعقل عنه، فله أن يتحوَّل عنه إلى غيره، واستحقَّ الثَّاني، وهلمَّ جرًّا.
          وعن النَّخعي قولٌ آخر: ليس له أن يتحوَّل، وعنه إن استمرَّ إلى أن مات تحوَّل عنه، وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز، وقد وقع ذلك في طريق الباغندي الَّتي أسلفتها، وفي غيرها أنَّه أعطى رجلًا أسلم على يديه رجلٌ فمات وترك مالًا وبنتًا نصف المال الَّذي بقي بعد نصيب البنت.
          ورُوي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعودٍ ♥ : أنَّهم أجازوا الموالاة وورَّثوا، وقاله اللَّيث، وعن عطاء والزُّهري ومكحول نحوه.
          هذا والجواب عمَّا قاله الشَّافعي: هذا الحديث ليس بثابتٍ يردُّه كلام أبي زرعة الدِّمشقي: إنَّه حديثٌ حسن المخرج متَّصل، وحكم الحاكم بصحَّته على شرط مسلمٍ، ورواية الأئمَّة الأربعة في كتبهم، وإلى ذلك أشار البخاريُّ بقوله: واختلفوا في صحَّة هذا الحديث، ولم يجزم بضعفه.
          نعم في «التاريخ»: بأنَّه لا يصلح لمعارضة حديث: ((إنَّما الولاء لمن أعتق)) ويؤخذ منه: أنَّه لو صحَّ؛ لما قاوم هذا الحديث، وعلى التَّنزل فيتردَّد في الجمع هل يخصُّ عموم الحديث المتَّفق على صحَّته بهذا، فيُستثنى منه من أسلم، أو يتأوَّل الأولويَّة في قوله: «أولى النَّاس» بمعنى النَّصر والمعاونة، وما أشبه ذلك لا بالميراث، ويبقى الحديث المتَّفق على صحَّته على عمومه جنح الجمهور إلى الثَّاني، ورجحانه ظاهرٌ.
          وبه جزم ابن القصَّار فيما حكاه ابن بطَّال فقال: لو صحَّ هذا الحديث؛ لكان تأويله أنَّه أحقُّ بموالاته في النَّصر والإعانة والصَّلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ: أحقُّ بميراثه؛ لوجب تخصيص الأوَّل، والله تعالى أعلم.
          وأمَّا قول الشَّافعي: وابن موهب ليس بمعروفٍ، ففيه أنَّه كيف يقول: إنَّه ليس بمعروفٍ، / وقد روى عنه عبد العزيز بن عمر والزُّهري وزيد بن عبد الله وعبد الملك بن أبي جميلة وعمرو بن مهاجر، وقال صاحب «الكمال»: ابن موهبٍ ولَّاه عمر بن عبد العزيز قضاء فلسطين، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه ليس بمجهولٍ لا عينًا ولا حالًا، وكفاه شهرةً وثقة تولية عمر بن عبد العزيز إيَّاه.
          وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم: حدثنا عبد العزيز بن عمر، وهو ثقةٌ، عن ابن موهب الهمدانيُّ وهو ثقةٌ، قال: سمعت تميمًا، وكيف يقول: ولا نعلمه لقي تميمًا؟ وقد قال في رواية يعقوب بن سفيان: سمعت تميمًا، وقد صرَّح بالسَّماع عنه، وهل يتصوَّر السَّماع إلَّا باللُّقي، وعدم علمه بلقيِّه لا يستلزمُ نفي علم غيره بلقيه، وعبد العزيز بن عمر ثقةٌ من رجالِ الجماعة.
          وقال يحيى وأبو داود: ثقةٌ، وعن يحيى: ثبت، وقول بعضهم: عبد العزيز ليس بحافظ (2) كلامٌ ساقطٌ؛ لأنَّ الاعتبار بكونه ثقةٌ وهو موجود، وقال محمَّد بن عمَّار: المشبه في الحفاظ بالإمام أحمد: ثقةٌ ليس بين النَّاس فيه اختلافٌ.
          وقول الخطَّابي: ضعف أحمد هذا الحديث ليس بذاك؛ لأنَّه لم يبيِّن وجه ضعفه، وقول التِّرمذي: ليس إسناده بمتَّصل يردُّه أنَّه سمع من تميم بواسطةٍ وبلا واسطةٍ، وإن سلَّمنا أنَّه لم يسمع منه ولا لحقه، فالواسطة وهو قبيصة ثقةٌ أدرك زمان تميم بلا شكٍّ، فعنعنته محمولةٌ على الاتِّصال.
          وقول ابن المنذر: هذا الحديث مضطربٌ، كلام مضطرب؛ لأنَّ رواته كلُّهم ثقاتٌ، فلا يضرُّ هل هو عن ابن موهبٍ عن تميم أو بينهما قبيصة، والاضطراب لا يضرُّ الحديث إذا كان رجاله ثقاتٌ، وقال الدَّارقطني: إنَّه حديثٌ غريبٌ من حديث أبي إسحاق السَّبيعي عن ابن موهبٍ، تفرَّد به عنه ابنه يونس، وتفرَّد به أبو بكرٍ الحنفي.
          فأفاد الدَّارقطني متابعًا لعبد العزيز وهو أبو إسحاق، والغرابة لا تدلُّ على الضَّعف، فقد يكون في الصَّحيح، والإسناد الَّذي ذكره صحيحٌ على شرط الشَّيخين، وفيه ردٌّ لقول ابن المنذر أيضًا، وكيف يشير النَّسائي إلى أنَّ الرِّواية الَّتي وقع فيها التَّصريح بسماعه من تميم خطأ؟ ثمَّ يقول: ولكن وثقه بعضهم، / فآخر كلامه ينقضُ أوَّله، وكيف يحكم بالخطأ، وقد ذكر عن ثقتين جليلين أنَّهما صرَّحا بسماع ابنِ موهب من تميمٍ، والله تعالى أعلم.


[1] في الفتح والقسطلاني (قال: سمعت عبد الله بن موهب يُحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيضة بن ذؤيب عن تميم الداري).
[2] في هامش الأصل: في نسخة: بالحافظ.