نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}

          ░14▒ (باب {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء:176]) أي: يستخبرونك في الكلالة، حذف لدَلالة ما بعده عليه، والاستفتاء طلبُ الفتوى، يُقال: استفتيتُ الرَّجل في المسألة فأفتاني إفتاءً وفتيا، وهما: اسمان وضعا موضعَ الإفتاء، ويُقال: أفتيت فلانًا في رؤيا رآها، قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46]، ومعنى الإفتاء: إظهار المشكل.
          ({قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء:176]) متعلِّق بـ{يفتيكم} على إعمال الثَّاني، وهو اختيار البصريِّين، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني، وله نظائرٌ في القرآن كقوله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19].
          واختلفوا في تفسير الكلالة فقيل: هو الميِّت الَّذي لا ولد له ولا والد، وهو قول جمهور اللغويِّين، وبه قال عليٌّ وابن مسعود ☻ ، وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر ☺، وقيل: الذي لا ولد له فقط، وقيل: الَّذي لا يرثه أبٌ ولا أمٌّ، وعلى هذه الأقوال فالكلالة اسمٌ للميِّت، وقيل: الكلالة اسم للورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قطرب، واختاره أبو بكرٍ ☺.
          وسمُّوا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تكلِّله الورثة؛ أي: أحاطوا به من جميع جهاته.
          قال السُّهيلي: الكلالةُ من الإكليل المحيط بالرَّأس، كأنَّ الكلالة وراثةٌ تكلَّلت العصبة؛ أي: أحاطت بالميِّت من الطَّرفين وهي مصدرٌ كالقرابة، وسمِّي أقرباء الميِّت كلالة بالمصدر كما يُقال: هم قرابة فلانٍ؛ أي: ذووا قرابته، وإن عنيت المصدر قلت: ورثوه عن كلالةٍ، ويطلقُ الكلالة على الوراثة مجازًا. /
          وأخرج أبو داود في «المراسيل»: عن أبي إسحاق عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن: جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله ما الكلالة؟ قال: ((من لم يترك ولدًا ولا والدًا فورثته كلالةٌ)).
          وفي «صحيح مسلم»: عن عمر ☺ أنَّه خطب ثمَّ قال: إنِّي لا أدعُ بعدي شيئًا أهمَّ عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلعم في شيءٍ ما راجعته في الكلالة حتَّى طعنَ بإصبعه في صدري، فقال: ((ألا يكفيك آية الصيف الَّتي في سورة النِّساء)) يريد صلعم هذه الآية.
          وفي «مدارك التَّنزيل»: كان جابر بن عبد الله ☻ مريضًا فعادهُ رسول الله صلعم فقال: إنِّي كلالةٌ، فكيف أصنع في مالي، فنزلت.
          ({إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176]) أي: إن هلك امرؤٌ غير ذي ولدٍ؛ أي: مات، والمراد بالولد الابن، وهو مشتركٌ يقع على الذَّكر والأنثى؛ لأنَّ الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت ({وَلَهُ أُخْتٌ}) لأبٍ وأمٍّ، أو لأبٍ ({فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}) أي: الميِّت، وهو بيان فرضها عند الانفراد، والفاء جواب إن ({وَهُوَ يَرِثُهَا}) جملةٌ لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها، وهي دالَّةٌ على جواب الشَّرط، وليست جوابًا خلافًا للكوفيِّين وأبي زيد، والضَّميران في قوله: ((وهو يرثها)) عائدان إلى لفظ: {امْرُؤٌ} و{أُخْتٌ} دون معناهما فهو من باب قوله:
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ                     وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ
          والهالك لا يرث فالمعنى: وامرؤ آخر غير الهالك يرث أختًا له أخرى.
          ({إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}) أي: ابن لأنَّ الأخ يستغرق ميراث الأخت إن لم يكن للأخت ابنٌ، فإن كان لها ابنٌ فلا شيء للأخ، وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات، وهذا في الأخ للأبوين أو للأب، وأمَّا الأخ من الأمِّ فإنَّه لا يستغرقُ الميراث ويسقطُ بالولد.
          ({فَإِنْ كَانَتَا}) أي: الأختان يدلُّ عليه قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} أي: فإن كانت الأختان ({اثْنَتَيْنِ}) أي: فصاعدًا ({فَلَهُمَا}) أو فلهنَّ ({الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}) أي: الميِّت ({وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً}) أي: وإن كان من يرث بالإخوة، والمراد بالإخوة الإخوة والأخوات تغليبًا لحكم الذُّكورة ({رِجَالًا وَنِسَاءً}) ذكورًا وإناثًا / ({فَلِلذَّكَرِ}) منهم ({مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}) حذف منهم لدَلالة المعنى عليه ({يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ}) أي: الحقَّ، وهو مفعول {يبيِّن} محذوف ({أَنْ تَضِلُّوا}) مفعول لأجله على حذف مضاف تقديره: يبيِّن الله لكم أمر الكلالة كراهة أن تضلُّوا في حكمها، هذا تقدير المبرد.
          وقال الكسائيُّ وغيره من الكوفيِّين: أنَّ لا محذوفة بعد «أنْ» والتَّقدير: لئلَّا تضلُّوا قالوا وحذف لا شائعٌ ذائع كقوله:
رَأَيْنَا مَا رَأَى الْبُصَرَاءُ مِنَّا                     فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا
          أي: أن لا تباع.
          ({وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176]) يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده، وسقط في رواية أبي ذرٍّ: من قولهم: <{إِنِ امْرُؤٌ}...> إلى آخره، وقال بعد قوله: {فِي الكَلاَلَةِ} [النساء:176]: <الآية> وإنَّما ترجم بهذه الآية؛ لأنَّ فيها التَّنصيص على ميراث الإخوة، هذا، قال السُّهيلي: ومن العجب أنَّ الكلالة في الآية الأولى من النِّساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت مع أنَّه لم يقع فيها التَّقييد بقوله ليس له ولد، وقيَّد في الآية الثَّانية مع أنَّ الأخت فيها ورثت مع البنت.
          والحكمة فيه: أنَّ الأولى عبَّر فيها بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12] فإنَّ مقتضاه الإحاطة بجميع المال وأغنى لفظ: {يُورَثُ} عن القيد، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] أي: يحيط بميراثها.
          وأمَّا الآية الثَّانية فالمراد بالولد فيها الذَّكر كما تقدَّم تقريره، ولم يعبَّر فيها بلفظ: يورث، فلذلك ورثت [الأخت] مع البنت، وقال ابنُ المنير: الاستدلال بآية الكلالة على أنَّ الأخوات عصبة لطيفة جدًّا، وهو أنَّ العُرْف في آيات الفرائض قد اطَّرد على أنَّ الشَّرط المذكور فيها بمقدار الفرض لا لأصل الميراث، فيُفهم أنَّه إذا لم يوجد الشَّرط أن يتغيَّر قدر الميراث، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11]، فتغيَّر القدر ولم يتغيَّر أصل الميراث، وكذا في الزَّوج وفي الزَّوجة، / فقياس ذلك أن يطَّرد في الأخت فلها النِّصف إن لم يكن ولدٌ، فإن كان ولد تغيَّر القدر، ولم يتغيَّر أصل الميراث، وليس هناك قدرٌ يتغيَّر إليه إلَّا التَّعصيب، ولا يلزم من ذلك أن ترثَ الأخت مع الابن؛ لأنَّه خرج بالإجماع فيبقى ما عداه على الأصل، والله تعالى أعلم.